علي مدي أكثر من أربعة عشر قرنا قدمت آلاف الكتب حول سيرة النبي صلي الله عليه وسلم ... إلا أن أحدا لم يصنف كتابا قائما بذاته عن" أمنة بنت وهب " أم النبي صلي الله عليه وسلم ، حيث أصدرت دار الهلال عام 6691 كتاب " أم النبي " والذي تناول تاريخها بالتفصيل فكان بذلك أول كتاب يقدم للمكتبة العربية عن هذا الموضوع وفي 3 ابريل عام 1994 نالت صاحبة الكتاب الدكتورة عائشة عبد الرحمن جائزة الملك فيصل للآداب الدكتورة عائشة عبد الرحمن قدمت العديد من المؤلفات والدراسات للمكتبة العربية والإسلامية وهي ليست في كتاباتها أستاذة جامعية وباحثة إسلامية فقط ،بل هي أديبة أيضا وقد ترجمت كتبها " أم النبي "و" نساء النبي " و " بنات النبي "و " السيدة زينب " و" سكينة بنت الحسين " إلي اللغات الفارسية والأوروبية والهندوسية ..وهي عندما كتبت تراجم سيدات بيت النبوة الطاهر قالت : لم اكتب كلمة واحدة من هذا الحديث حتي قرأت ما في مكتبتنا من مؤلفات تناولت هذا الجانب من حياة الرسول وحياة زوجاته مبتدئة بالقرآن الكريم وكتب السيرة والتفسير والحديث ثم التراجم والتاريخ وضممت إليها ما استطعت الوصول إليه مما كتبه المستشرقون عن محمد والإسلام في الانجليزية والألمانية والفرنسية ". كتاب "أم النبي "أحد الكتب النادرة التي تناولت سيرة حياة سيدة الأمهات " أم المصطفي صلي الله عليه وسلم " ، " آمنة بنت وهب " رضي الله عنها ، بدأ الكتاب بمناجاة من الكاتبة إلي سيدة الأمهات جاء فيها : يا أم المصطفي هو أبدا مجد الأمومة الذي خلد واهبات الحياة علي الدهر ، وصانعات التاريخ منذ الأزل والي الأبد فأي عز للأمومة وراء كلمة وحيدك " الجنة تحت أقدام الأمهات " بدأت الكاتبة الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان " سيدة الأمهات " وتناولت فيه مصادر السيرة العطرة لأم أفضل خلق الله سيدنا محمد صلوات الله عليه وسلامه وعناوين فرعية منها أنوثة وأمومة وأمهات الأنبياء والتي تناولت فيها قصص إسماعيل وموسي وعيسي ومحمد عليهم ازكي الصلاة والسلام وتقول الكاتبة في سطور كتابها : " من عجب الاتفاق أنهم عليهم السلام قد عهد بهم في طفولتهم إلي الأمهات وحدهن دون مشاركة الآباء فلم تقم الأم بدورها الطبيعي فقط ، بل عوضت إلي جانبه فقد الأب أو غيابه " نشأة آمنة تفتحت عينا الفتاة والأم الجليلة آمنة بنت وهب في البيت العتيق في مكةالمكرمة ، في المكان الذي يسعي إليه الناس من كل فج، ملبية نداء إبراهيم " الخليل" -عليه الصلاة والسلام - في الناس بالحج، وفي ذلك المكان الطاهر المقدس وضعت السيدة " آمنة بنت وهب " سيد الخلق " محمداً " في دار " عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم" ، وبيئة آبائه وأجداده ، ودار مبعثه. آل آمنة بنو زهرة.. تندرج "آمنة بنت وهب " من أسرة " آل زهرة " ذات الشأن العظيم، فقد كان أبوها " وهب بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي" سيد بني زهرة شرفا. ولم يكن نسب "آمنة" من جهة أمها، دون ذلك عراقة وأصالة فهي ابنة برة بنت عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب"... فتجمع في نسب " آمنة" عز بني عبد مناف حسب وأصالة. ويؤكد هذه العراقة والأصالة بالنسب اعتزاز الرسول كان منبت سيدتنا "آمنة" وصباها في أعز بيئة، وما لها من مكانة مرموقة من حيث أصالة النسب والحسب، والمجد السامي، فكانت تعرف " بزهرة قريش" فهي بنت بني زهرة نسبا وشرفا، فكانت محشومة ومخبأة من عيون البشر، حتي إنَّ الرواة كانوا لا يعرفون ملامحها. وقيل فيها إنها عندما خطبت لعبد الله بن عبد المطلب كانت حينها أفضل فتاة في قريش نسبا وموضعا ". وكانت بشذاها العطرة تنبثق من دور بني زهرة، ولكنه ينتشر في أرجاء مكة. وقد عرفت " آمنة " في طفولتها وحداثتها ابن العم "عبد الله بن عبد المطلب" حيث إنه كان من أبناء أشرف أسر قريش، حيث يعتبر البيت الهاشمي أقرب هذه الأسر إلي آل زهرة؛ لما لها من أواصر الود والعلاقة الحميمة التي تجمعهم بهم، عرفته قبل أن ينضج صباها، وتلاقت معه في طفولتها البريئة علي روابي مكة وبين ربوعها، وفي ساحة الحرم، وفي مجامع القبائل.ولكنها حجبت منه؛ لأنها ظهرت فيها بواكير النضج، هذا جعل فتيان من أهل مكة يتسارعون إلي باب بني زهرة من أجل طلب الزواج منها. لم يكن " عبد الله" بين الذين تقدموا لخطبة " زهرة قريش" ، فهو ابن " عبد المطلب بن هاشم" وأمه" فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية" وجدة " عبد الله" لأبيه " سلمي بنت عمرو". ولكن السبب الذي يمنع " عبد الله " من التقدم إلي " آمنة" هو نذر أبيه بنحر أحد بنيه لله عند الكعبة. حيث إن عبد المطلب حين اشتغل بحفر البئر، وليس له من الولد سوي ابنه " الحارث" ، فأخذت قريش تذله، فنذر يومها، إذا ولد له عشرة من الأبناء سوف ينحر أحدهم عند الكعبة. فأنعم الله علي " عبد المطلب" بعشرة أولاد وكان " عبد الله" أصغرهم.وخفق قلب كل شخص وهو ينتظر اللحظة ليسمع اسم الذبيح، وبقيت "آمنة"، لا تستطيع أن تترك بيت أبيها، ولكنها تترقب الأنباء في لهفة، وقد اختير " عبد الله " ليكون ذبيحا، ومن ثم ضرب صاحب القدح فخرج السهم علي " عبدا لله" أيضا فبكت النساء، ولم يستطع "عبدا لمطلب" الوفاء بنذره؛ لأن عبد الله أحب أولاده إليه، إلي أن أشار عليهم شخص وافد من " خيبر" بأن يقربوا عشراً من الإبل ثم يضربوا القداح فإذا أصابه ، فزيدوا من الإبل حتي يرضي ربكم، فإذا خرجت علي الإبل فانحروها، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، وظلوا علي هذه الحالة ينحرون عشرًا ثم يضربون القداح حتي كانت العاشرة، بعد أن ذبحوا مائة من الإبل. عرس آمنة وعبد الله رضي الله عنهما جاء وهب ليخبر ابنته في حب وحنو عن طلب عبد المطلب " بتزويج "آمنة " بابنه "عبد الله" فغمر الخبر المفرح نفس "آمنة" ، وبدأت سيدات آل زهرة تتوافد الواحدة تلو الأخري لتبارك " لآمنة". وكذلك قيل بأن الفتيات كن يعترضن طريق " عبد الله"؛ لأنه اشتهر بالوسامة، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا، حتي إنَّ أكثر من واحدة خطبته لنفسها مباشرة. وأطالت "آمنة" التفكير في فتاها الذي لم يكد يفتدي من الذبح حتي هرع إليها طالباً يدها، زاهدا في كل أنثي سواها، واستغرقت الأفراح ثلاثة أيام ، ولكن عينيها ملأتهما الدموع؛ لأنها سوف تفارق البيت الذي ترعرعت فيه، وأدرك "عبد الله" بما تشعر به، وقادها إلي رحبة الدار الواسعة. وذكر بأن البيت لم يكن كبيرا ضخم البناء، لكنه مريح لعروسين ليبدآ حياتهما. فكان البيت ذا درج حجري يوصل إلي الباب ويفتح من الشمال، ويدخل منه إلي فناء يبلغ طوله نحو عشرة أمتار في عرض ستة أمتار، وفي جداره الأيمن باب يدخل منه إلي قبة، وفي وسطها يميل إلي الحائط الغربي مقصورة من الخشب، أعدت لتكون مخدعاً للعروسين. بعد زواج " عبد الله " من " آمنة" أعرضت عنه كثير من النساء اللواتي كنَّ يخطبنه علانية ، فكانت " بنت نوفل بن أسد" من بين النساء اللواتي عرضن عن " عبد الله" ، فسأل عبد الله واحدة منهن عن سبب إعراضها عنه فقالت :" فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة أدهش هذا الكلام " عبد الله وآمنة" وراحا يفكران في القول الذي قالته تلك المرأة؟ ولم تكف "آمنة " عن التفكير والرؤيا عنها وسبب انشغال آمنة في التفكير يرجع إلي أن هذه المرأة أخت " ورقة بن نوفل" الذي بشر بأنه سوف يكون في هذه الأمة نبي ... وبقي " عبد الله" مع عروسه أياما ، وقيل إن المدة لم تتجاوز عشرة أيام؛ لأنه يجب عليه أن يلحق بالقافلة التجارية المسافرة إلي غزة والشام. العروس الأرملة انطلق" عبد الله " بسرعة قبل أن يتراجع عن قراره، ويستسلم لعواطفه، ومرت الأيام و"آمنة "تشعر بلوعة الفراق ، ولهفة الحنين إلي رؤيته، حتي إنها فضلت العزلة والاستسلام لذكرياتها مع " عبد الله" بدلا من أن تكون مع أهلها. ومرت الأيام شعرت خلالها " آمنة" ببوادر الحمل، وكان شعورا خفيفا لطيفا ولم تشعر فيه بأية مشقة حتي وضعته. وفي هذه الأيام كانت تراودها شكوك في سبب تأخير" عبد الله" فكانت تواسي نفسها باختلاقها الحجج والأسباب لتأخيره. وجاءت " بركة أم أيمن" إلي "آمنة" فكانت لا تستطيع أن تخبرها بالخبر الفاجع، الذي يحطم القلب عند سماعه فكانت تخفيه في صدرها كي لا تعرفه"آمنة" ، ومن ثم أتاها أبوها ليخبرها عن " عبد الله" التي طال معها الانتظار وهي تنتظره، فيطلب منها أن تتحلي بالشجاعة ، وأن " عبد الله" قد أصيب بوعكة بسيطة، وهو الآن عند أخواله بيثرب، ولم تجد هذه المرأة العظيمة سوي التضرع والخشية وطلب الدعاء من الخالق البارئ لعله يرجع لها الغائب الذي تعبت عيناها وهي تنتظره، وفي لحظات نومها كان تراودها أجمل وأروع الأحلام والرؤي عن الجنين الذي في أحشائها، وتسمع كأن أحداً يبشرها بنبوءة وخبر عظيم لهذا الجنين. وجاء الخبر المفزع من " الحارث بن عبد المطلب " ليخبر الجميع بأن " عبد الله " قد مات، أفزع هذا الخبر آمنة، فنهلت عيناها بالدموع وبكت بكاءً مراً علي زوجها الغائب ، وحزن أهلها حزنا شديدا علي فتي قريش عبد الله . وانهلت بالنواح عليه وبكت مكة علي الشجاع القوي . أم اليتيم نُصحت آمنةُ بنت وهبٍ بالصبر علي مصابها الجلل، الذي لم يكن ليصدق عنده حتي إنها كانت ترفض العزاء في زوجها، ولبثت مكة وأهلها حوالي شهر أو أكثر وهي تترقب ماذا سوف يحدث بهذه العروس الأرملة التي استسلمت لأحزانها. وطال بها التفكير بزوجها الغالي عليها ، حتي إنها توصلت للسر العظيم الذي يختفي وراء هذا الجنين اليتيم، فكانت تعلل السبب فتقول أن " عبد الله" لم يفتد من الذبح عبثا! لقد أمهله الله حتي يودعني هذا الجنين الذي تحسه يتقلب في أحشائها. والذي من أجله يجب عليها أن تعيش.وبذلك أنزل الله عز وجل الطمأنينة والسكينة في نفس " آمنة"، وأخذت تفكر بالجنين الذي وهبها الله عز وجل لحكمة بديعة، " ألم يجدك يتيما فآوي"سورة الضحي6". فوجدت " آمنة" في هذا الجنين مواساة لها عن وفاة زوجها ، ووجدت فيه من يخفف عنها أحزانها العميقة. فرح أهل مكة بخبر حمل " آمنة" وانهلوا عليها من البشائر لتهنئة "آمنة " بالخبر السعيد. وتتكرر الرؤي عند "آمنة" وسمعت كأن أحدا يقول ها " أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد«، ثم تسميه محمدا. وجاءها المخاض فكانت وحيدة ليس معها أحد ولكنها شعرت بنور يغمرها من كل جانب، وخيل لها أن " مريم ابنة عمران"، "وآسية امرأة فرعون"، و " هاجر أم إسماعيل" كلهن بجنبها ، فأحست بالنور الذي انبثق منها ، ومن ثم وضعت وليدها كما تضع كل أنثي من البشر. وهنا اكتملت فرحة " آمنة" فوليدها بجوارها، ولم تعد تشعر بالوحدة التي كانت تشعر بها من قبل. وفرح الناس وفرح الجد " عبد المطلب" بحفيده، وشكر الرب علي نعمته العظيمة وسماه " محمدا" ، وسبب تسميته محمدا هو أنه يريده أن يكون محموداً في الأرض وفي السماء، ومن ثم توالي القوم ليسموا أبناءهم بهذا الاسم. وشعرت "آمنة" بأن القسم الأول والأهم قد انتهي بوضع وليدها المبشر، ورسالة أبيه قد انتهت بأن أودعه الله جنينًا في أحشائها، ولكن مهمتها بقيت في أن ترعاه وتصحبه إلي يثرب ليزور قبر فقيدهما الغالي " عبد الله" . وبعد بضعة أيام جف لبن " آمنة" لما أصابها من الحزن والأسي لموت زوجها الغالي عليها فأعطته " لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدي" حتي ترضعه، فبات عندهم حتي انتهت سنة رضاعته وأرجعته إلي "آمنة". وفي الفترة التي عاش عند "حليمة" حدثت لرسول الله »صلي الله عليه وسلم« حادثة شق الصدر التي أفزعت النفوس بها. وفاة آمنة حان الوقت الذي كانت "آمنة" تترقبه حيث بلغ محمدٌ السادسة من عمره بعد العناية الفائقة له من والدته. وظهرت عليه بوادر النضج. فصحبته إلي أخوال أبيه المقيمين في يثرب ولمشاهدة قبر فقيدهما الغالي، وعندما وصلت إلي قبر زوجها عكفت هناك ما يقارب شهرا كاملا ، وهي تنوح وتتذكر الأيام الخوالي التي جمعتها مع زوجها بينما "محمد" يلهو ويلعب مع أخواله. تعبت "آمنة" في طريقها بين البلدتين إثر عاصفة حارة وقوية هبت عليهم. فشعرت "آمنة" بأن أجلها قد حان فكانت تهمس بأنها سوف تموت، ولكنها تركت غلاماً طاهراً، ثم أخذها الموت من بين ذراعي ولدها الصغير وفارقت هذه الدنيا. وانهلت أعين الطفل بالبكاء بين ذراعي أمه، فهو - بعد - لا يدرك معني الموت . فأخذته " أم أيمن" فضمته المسكينة إلي صدرها وأخذت تحاول أن تفهمه معني الموت حتي يفهمه. وعاد اليتم الصغير إلي مكة حاملا في قلبه الصغير الحزن والألم ، ورأي بعينيه مشهد موت أعز الناس وأقربهم إلي قلبه؛ أمه آمنة التي يصعب عليه فراقها. الذكري الخالدة ماتت " زهرة قريش" السيدة العظيمة، ولكنها خلدت في قلب أهل مكة، وفي قلب ابنها سيد البشر ، فهي عظيمة وأم لنبينا - وقد اختاره الله- عز وجل - واصطفاه من بين البشر جمعاء؛ ليحمل رسالة عظيمة إلي شتي أنحاء العالم وللبشر. هذا اليتيم لم يعد يتيمًا بل كفله عمه " أبو طالب" بعد وفاة جده، وكان يحبه حبا شديدا فكان يعتبره واحداً من أبنائه، وكان ينتظره إلي أن يأتي ويتغدي الجميع بصحبة محمد المباركة ، وعلي الرغم من أن محمّدا أحيط بحب زوجته " السيدة خديجة" و حنان زوج عمه" فاطمة بنت أسد"، ولكن ذكريات أمه بقيت معه في كل لحظة، ويذكر كل لحظة جميلة قضاها معها إلي لحظة موتها، حتي كان ينوح من البكاء. وسوف تظل صورة الأم العظيمة آمنة بنت وهب تنتقل عبر الأجيال.
