إن العلاقات الاعتباطية بين الناس، تحجب كل ما من شأنه أن يكشف متاهات المجهول بين أطرافها، ولأنها في تأسيسها ينقصها الضمان، ويعوزها اليقين، لذا فقد تسمح في البداية للأضداد بأن تتوازي لفترة من الزمن لكن من بعدها تنكشف الأقنعة، وتتبدد الأوهام. ويبدو أن علاقة »روجر« بصديقه مصارع الثيران »باكو«، كانت نموذجا لتلك العلاقات، إذ في البداية ارتبطا بصداقة اعتباطية قادتهما إلي اختلاط معيشي، فأقاما معا في مسكن واحد. ولأن »روجر« كان يفكر بلغة الحياة الإنسانية التي رهانها إرادة التعايش في سياق التغاير، وليس التضاد، وفي ظل منظومة قيم انسانية عامة لاتتبدل مهما تباينت المواقف، لذا لم يخالجه شئ من الريبة تجاه استمرار صداقته ل »باكو« وتلاقيهما. ما من شك ان الاختلاط المعيشي اليومي بينهما، كان مضاداً لذلك السكون الاعتباطي في علاقتهما، ذلك انه يشحذ الوعي لدي كل منهما لرؤية الخواص السلوكية للآخر، فتلاحقها تساؤلات الوعي، بحثا عن اجابات في سبيل إدراك دوافعها المضمرة. ومن البديهي أيضا أن تراكم التجارب الإدراكية قد يشكل تعارضاً وإكراها علي احتمالها من أحدهما، خاصة عندما تحوي دروبا من الغياب لقيم، أو خللاً لتحيزات يصعب محوها، وأيضا حين تتبدي إصرارا تستحيل زعزعته. ولأن التجارب الإدراكية تحوي المستقبل، وتجعل المخفي مرئيا، لذا فقد تستولد حذرا من تلك المدركات، أو تقليصا، أو تجنبا لها لاستحالة معايشتها. تري كيف كان تأثير أفق تجربتهما الإدراكية في مستقبل علاقتهما، في ظل اختلاطهما المعيشي المشترك؟ عقب انتهاء عروض »باكو« لمصارعة الثيران في إسبانيا وعودته إلي موطنه المكسيك، وعندما حل بمسكنه المشترك، سلمه صديقه »روجر« إشعارا بريديا يخصه. كان مفاد الإشعار إعلان »باكو« بأنه قد مضت السنوات الخمس علي وفاة أمه، تلك السنوات التي منحها له مجانا، منسق عروض المصارعة الذي كان يعمل معه »باكو« وقتذاك، وذلك بوصف السنوات الخمس فترة حيازة مجانية لقطعة الارض التي دفنت فيها أمه، إذ في ضوء انقضاء تلك السنوات، أصبح من حق الرجل استعادة قطعة الأرض لحيازته، وليس أمام »باكو« سوي خيار واحد لبقاء أمه في قبرها، وذلك بتسديد مبلغ عشرين دولاراً شرطاً لاستمرار دفنها في قبرها إلي الابد. صحيح انه عندما مات والد »باكو« منذ سنوات عدة قبل وفاة أمه وقتذاك تولي دفنه في ارضه علي نحو دائم، منسق العروض نفسه، وصحيح ان الموقف الحالي يشكل استصراخا ملحا، يستنهض الخروج من مأزق لا يتحمل الامتداد أو الارجاء، إذ إن شحنة مشاعر الاوجاع الإنسانية التي تثيرها التداعيات السلبية للموقف، تكفي لترميم أية إرادة متخاذلة لاتدرك ان الموت يضع حدا لكل الحدود الأخري، لكن الصحيح أن »باكو« اختزل معطيات الموقف إلي أدني خطوط دلالاته، إذ راح يدين الرجل، ويتهمه بأطماع الاستحواذ والتملك، ومندداً بتجلي ذلك في انه لم يسمح بدفن أمه مجانا إلا لخمس سنوات فقط. تري هل لجأ »باكو« إلي لعبة التشويش علي القضية الأساسية، وذلك بتغطيتها بقناع عكسي؟ يبدو أن ذلك الانعطاف شبه المكشوف عن اتخاذ إجراءات حماية قبر الأم، بتسديد المبلغ الزهيد المطلوب، قد حفز صديقه »روجر« بأن يلعن اضطلاعه بمهمة دفع المبلغ المطلوب حسما للمأزق. لكن »باكو« عارضه مؤكدا أنه سيتولي تنفيذ الأمر بنفسه. بعد أسبوع وصل الإشعار الثاني، فتلاه عليه صديقه »روجر« الذي أصابته الدهشة، من تخلي »باكو« عن قراره الممكن بحماية قبر أمه، وخرقه لصريح كلامه. لكن يبدو أن لغة الحقيقة قد ماتت، ولم تعد تتبدي سلوكا يسبق السلوك ويحرسه، بل اصبحت تضادا لسلوك مضمر مضاد، يعمم الفوضي، ويبطل جدارة الانسان امام ذاته. عندما وصل الاشعار الثاني، عرض »روجر« للمرة الثانية علي صديقه »باكو« ان يسمح له بتسديد المبلغ المطلوب. رفض »باكو« مستنكرا قبول أي إملاء من أحد لما سيفعله، مبررا موقفه بمنطق فاسد، مفاده ان المال لايجب إنفاقه في وقت مبكر عما هو ضروري. لا شك ان منطقه الفاسد يوحي برغبته العامة في عدم انفاق المال عند استحقاقه، وذلك بالمخالفة لقواعد الضبط الاجتماعي الخارجي والداخلي، إذ يبدو ان استدامة استئثاره بالمال تمنحه فرصة إشباع ذاتي خاص. أبرم »باكو« عقودا لحفلات مصارعة الثيران، حصل علي مايزيد علي خمسة عشر ألف دولار، وفي غضون ذلك وصل الإشعار الثالث، فتلاه »روجر« علي صديقه »باكو«، حيث تبين أنه إنذار يحدد تاريخاً ملزما لتسديد مبلغ العشرين دولارا، ويشترط أن إجراءات التسديد إذا ما تخطت ذلك التاريخ، فسيفتح قبر أمه، وتقذف بقاياها خارجه، وتلقي علي كومة الطريق العام. أنهي »روجر« تلاوة الإشعار مذهولا، محتجا، مشمئزاً من وجدان »باكو« الذي أنتج سلوكا مرذولاً، مقبحا، تجلي في تخليه عن مسئوليته تجاه القيم الإنسانية العامة مقابل مبلغ زهيد، في حين أنه رجل ثري لا يعاني عوزا ماليا. عاود »روجر« بإصرار ندب نفسه للقيام بمهمة تسديد المبلغ . تشبث »باكو« برفضه المتكرر بوصف الأمر يخصه، ثم اخرج من الخزانة بعض النقود، وغادر المنزل، أوحت دلالة المشهد إلي »روجر« أن »باكو« سوف ينجز المهمة. صحيح أن »باكو« كان يطلب إلي »روجر« أن يدفع عنه التزامات مالية في اثناء سفرياته المتعددة، وان يتكفل عنه بمتطلبات منزلية، علي أن يدفع إليه آجلا، وصحيح أنه لم يكن يسدد له شيئا من ديونه، وعندما يطالبه »روجر« كان يتعلل دوما بأنه يحتاج إلي النقود لعمله الخاص، لكن الصحيح ان طبيعة شبكة هذه الممارسات في علاقتهما تطرح تساؤلات تبدو كاشفة: تري لماذا أصر »باكو« مشددا علي عدم قيام »روجر« بدفع العشرين دولارا للحفاظ علي قبر أمه، رغم إلحاح »روجر« بتطوعه لتحمل قيمة المبلغ المطلوب؟ وما هي إذن مبررات هذا السلوك المتناقض؟ هل يعني ذلك أن »باكو« يرفض مسئولية الالتزام بأية قيم، أوالخضوع لها بوصفه منشقا عن أي انتماء إلا إلي ذاته؟ لقد كان »باكو« شديد التركز حول ذاته والانغلاق عليها،إذ ينفق المال بغباء وغرور علي ملذاته، وأهوائه، وحاجاته، ويسعي إلي تمديدها متجاوزا وضعه الانساني والاجتماعي، منفلتا من كل حدود، وذلك هو عمله الخاص، وفق تعبيره. بعد أسبوع وصل إشعار يفيد انه نظرا إلي انقضاء مهلة الإنذار الأخير دون استجابة بدفع العشرين دولارا، فقد ألقيت امه علي كومة الطريق العام. لاخلاف أن الأحداث التي يواجهها الإنسان، لابد أن يقبلها أو يرفضها، ويتوقف ذلك علي طريقة قراءته لها، إما قراءة صحيحة، وإما قراءة تحريفية. تري كيف قرأ »باكو« التهديد بفقدان أمه لقبرها؟ أليست الأم تمثل قيمة ضاغطة غير متغيرة تتصدر كل الخيارات، ويصعب مقاومتها، أم تري أن انهمامه بذاته يمثل سلطة غواية مطلقة بالنسبة إلي »باكو« جعلته يتجاوز أنبل القيم، فأنتجت تلك القطيعة الكارثية بينهما؟ انطلقت صرخة »روجر« مدوية حين باغته الإشعار بما يحمله من اندحار القيمة، فثار في وجه »باكو« متسائلا عن ذلك الدم الذي يجري في عروقه، مستبشعا لامبالاته بتخليه عن أنبل واجباته الإنسانية، نتيجة افتتانه الباطل بذاته الذي قذف به إلي ضياعه. لكن »باكو« تغطية لانحطاطه راح يتلاعب به، ويضلله، ممارسا منطقه الفاسد، مدعيا أن وضع امه الحالي قد نحي عنه حزنه عليها، لأنها مدفونة، مختزلة في مكان معلوم يصعب امتداده حيث لايمكنه دوما ان يلتقيها، في حين انها الآن تنتشر في كل مكان حوله، في الهواء مثل الطيور والزهر، لقد صارت قريبة منه، يتحسسها، وعلي الدوام يلتقيها. لكن »روجر« كان قد أدرك معني حد التباعد عن كائن بشع، ميئوس منه، فأعلن ل »باكو« قرار القطيعة، وطالبه بأن يرد إليه نقوده، وحين ماطله، انطلق »روجر« مغادرا خالي الوفاض، وذلك كان خياره الأوحد والافضل من بين ممكناته، ثم راح يكشف للناس في المدينة عن وجه الوحش العابث الذي ارتكب أبشع الخطايا، واصفا إياه بأنه لا أم له، فاضحا ادعاءاته وإفلاسه الإنساني، حتي صد الناس عنه نفورا عن خروقاته، لكن معضلة »روجر« كانت في لامبالاة »باكو«، وعدم استيعابه الذاتي بعماء ظاهر لرفض قبوله الاجتماعي. صحيح ان قصة الكاتب الأمريكي »إرنست هيمنجواي« وتحمل عنوان »الأم ملكة«، ويتبدي واضحاً أن الكاتب قد صاغ العنوان مكونا من لفظة »الأم« بوصفها محور الحدث الرئيسي للقصة، ثم اضاف من خارج القصة لقب »ملكة« بوصفه لقباً للتناقض بين عنوان القصة ونهايتها الأليمة، وصحيح ايضا ان الأم في القصة لم تلق من ابنها حرصا، وحماية لمكانتها، وتقديرا لقيمتها، بل لاقت تفريطا جردها من جوهرها، تجلت مظاهره في امتهانها، حيث تركت بقاياها ملقاة علي الطريق العام، نتيجة سلوك ابن يعيش في هوس كامل بذاته، يمارس حياته ببدنه ولبدنه، فأفقده ذلك انتماءه الإنساني، وحرمه ان يكتشف يوما ما يفعله من شر، تجسد في صورة عنف غبي، يقصي كل من حوله، مبددا كل مبدأ وغاية لصالح ذاته، لكن الصحيح كذلك ان الكاتب قد اتخذ من الأم في قصته بديلا استعاريا مجازيا، ليطرح معاني إيحائية من خلال إمكانية تماثل الأم مع قيم تتسق وتتفاعل معها. ولا شك ان الوطن يتماس في دلالته مع الأم، انطلاقا من أن الوطن مثل الأم، يمنح ايضا أبناءه لبنا وعسلا، حيث اللبن يعني الاقتدار علي الحياة، والعسل يعني حب الحياة، إذ في ظلهما تنمو الروح الانسانية للمواطن بوصفه كائنا اجتماعيا، قادرا علي تجاوز فرديته إلي العام، بانفتاح آفاقه علي اكتشاف تفاصيل الحياة خارج ذاته، حيث لا وجود اجتماعيا وإنسانيا لمواطن خارج نطاق فضائه الاجتماعي، الذي يجتهد به ومعه في صياغة تطوره ومستقبل تحولاته، وذلك من خلال شبكة علاقات مجتمعية إيجابية، تحقق بمعاييرها وأدواتها حماية استحقاقات المواطن وإنصافه، تضمن له الاقتدار علي الحياة الواعدة، ولاتبطل إمكانية حراكه، في ظل شبكة تشريعات ضابطة للسلوك العام، وفي سياق منظومة قيم تصحح عماء الوقائع، والعطب الذاتي، وتحمي المجتمع من كل ممارسة تطرد الحقيقة، أو تستبعد الآخر وتقصيه، وتعلن بطلانه. ولا خلاف ان الدستور هو الذي يؤمن كل تلك الاستحقاقات، بوصفه صانع مجتمعه، ومتكأه الاجتماعي، مستمدا مشروعيته من مجتمعه في واقعه التاريخي والثقافي معا، حاميا الوطن من التبعثر والتشرذم، بتصديه لكل خروقات هوس الذاتية، وسلطة الغواية، وخطايا الاستبداد، ضامنا لعدالة حقوق الفرد والجماعة، محققا مواطنة الوطن الأم، وذلك بما يضخه الوطن في كيان ابنائه من وعي عملي بالقيمة والحق، وما يحققه من خلال دستوره من علاقات جماعية مؤسسة علي رباط إرادي منتظم وغير عفوي، يستهدف إنجازا مشتركا، يرسخ ما لايوجد عفويا، كالعدالة الاجتماعية، والانصاف، والمساواة، والمشاركة والتداول، والأمان، والتي تستتبع سلوكا ذا طابع إلزامي بالنسبة للجميع، ان تأثيرات الوطن في كيان الفرد انسانيا تشكل معني وجوده، وسلامه الإنساني، وذلك ما يستولد بينهما ذلك التواصل السحري، الذي يتوج قيمة الوطن يقينا عاما، لذا تسبق التزاماته وحقوقه كل الخيارات الخاصة وتتصدرها، ولايعفي منها أحد. تري أليس الانتصار لدستور المواطنة، والتماسك الاجتماعي، هو انتصار لقيمة الوطن، وحماية من خطايا مقطوعي الجذور من أمثال »باكو« مصارع الثيران في قصتنا الذي يعيش ببدنه ولبدنه فقط، فاقدا لكيانه، منتحلاً قناع الابطال؟