ارتبطت السينما بالصحافة علي مدي تاريخها، وقدمت هوليوود قائمة طويلة من الأفلام، ترصد دور مهنة القلم في إجلاء الحقائق للرأي العام، وإزاحة الغموض عن العديد من القضايا، وفضح الصمت عن المسكوت عنه في المجتمع، واستعرضت الشاشة الفضية أشهر الصراعات التي خاضتها الصحف الأمريكية، وأهم التحقيقات التي تناولتها للكشف عن معاقل الآثام والفساد السياسي والمالي، وتعرية المفسدين والآسنين. في مقالي السابق أشرت لدور صنّاع الفن السابع في مساندة هذه المهنة النبيلة، ومناصرة الإعلام في مواجهة الهجمة الشرسة، وغير المسبوقة التي يتعرض لها من قبل الإدارة الأمريكية، وأستكمل الحديث هنا عن فيلم "The Post" الذي يتناول معركة جريدة " الواشنطن بوست " مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وترشحه لنيل جائزة أوسكار أفضل فيلم، وهي الجائزة التي حصل عليها قبل عامين، فيلم "SPOT LIGHT" أو "بقعة ضوء " للمخرج توم ماكرثي. وفيلم "سبوت لايت" يتعرض لأحد أهم التحقيقات الاستقصائية في الصحف الأمريكية، ويسرد بأسلوب أقرب للوثائقي مغامرة حقيقية خاضها فريق التحقيقات الصحفية في جريدة "بوسطن جلوب "، منذ ما يقرب من 15 عاما، لفضح جريمة الصمت - لأكثر من 10 سنوات - علي الاعتداءات الجنسية التي قام بها بعض القساوسة في أبرشية بوسطن ضد الأطفال، وكيف استطاع "فريق سبوت لايت" الحصول علي حكم قضائي بالإفراج عن وثائق الإدانة السرية، وتحقيق السبق في نشر الوثائق قبل الجرائد والصحف المحلية الأكثر شهرة في بوسطن. كما يتعرض إلي قصص الضحايا الناجين من الانتحار، ويصور حياتهم الكابوسية الحبلي بالخزي والألم النفسي المدمر، والصراعات الشخصية التي تدفعهم للانسحاب داخل انفسهم، أو التخلص من حياتهم هربا من ذكريات طفولتهم المسمومة، ويلقي المخرج الضوء علي "الشرعية السرية" التي تكتنف هذا العالم المظلم، وتستر الكنيسة والمسئولين في المدينة علي التحقيقات التي تدين القساوسة في تلك الوقائع، وطريقة تعامل الأهل مع ما حدث لأطفالهم، ورفض الكثير من الآباء والأمهات التصديق، والضغوط التي تمارسها الكنيسة علي من صدقوا أبناءهم، حتي لا تتصاعد القضية. وأفضت التحقيقات الصحفية التي فجرها الفريق "سبوت لايت" إلي استقالة الكاردينال "برناردلو"، بعد إثبات تورط العشرات من رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية، ومنحت جائزة "بوليترز " ذلك العام لفريق جريدة " بوسطن جلوب"، التي بدونها ما كان العالم سمع بتلك القضية الخطيرة، وهذا ما جعل المخرج يشير إلي أن الهدف من الفيلم لم يكن إعادة تسليط الضوء علي فضيحة الكنيسة الكاثوليكية، وإنما إظهار قوة الصحافة الحقيقية التي تراجعت مع الوقت، وتوضيح أهميتها للمجتمع. ومثلما كان لصحيفة بوسطن جلوب الفضل في تفجير تلك القضية الخطيرة، كان لجريدة " واشنطن بوست " الفضل في كشف فضيحة " ووترجيت"، والتي لولا تحقيقات المحررين الصحفيين "بوب وود وارد" و"كارل برنستين "، لما سمع العالم أيضا عن أشهر فضيحة سياسية في التاريخ الأمريكي، تلك الفضيحة المدوية التي دفعت الرئيس ريتشارد نيكسون للاستقالة من منصبه، قبل أن يصوت الكونجرس بالأغلبية علي قرار عزل الرئيس الأمريكي رقم 37 من منصبه. وأذكر خلال زيارتي الأولي للولايات المتحدة، توقفت السيارة التي تصحبني وعدد من الصحفيين في جولة سياحية، لأهم معالم العاصمة الأمريكية أمام مجمع سكني ضخم، وبمجرد أن ذكر اسم "ووترجيت"، أدركنا لماذا صار مبني يضم شققا سكنية ومكاتب أحد المعالم الأمريكية الشهيرة، ليس هذا فحسب بل أنه صار ملهما لكثير من صناع الأفلام السينمائية، وأشهرها فيلم " كل رجال الرئيس" بطولة "روبرت ريدفورد" و"داستن هوفمان"، والحائز علي أربع جوائز أوسكار. ومثلما انتصرت »واشنطن بوست» في قضية "أوراق البنتاجون "، التي كانت حكومة نيكسون تظن أنها نهاية علاقة "البيت الأبيض " بتلك الجريدة، انتصرت أيضا في فضيحة "ووترجيت"، وانتهت هذه المرة علاقة "نيكسون" بالبيت الأبيض، وصار الرئيس الأمريكي الوحيد في التاريخ الذي استقال من منصب الرئاسة. ولكن السؤال: هل سيكون للصحافة الاستقصائية أيضا الفضل في كشف فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وإظهار وثائق الإدانة أمام العالم ، ويصبح "رونالد ترامب" ثاني رئيس يستقيل في تاريخ أمريكا؟!