تمر اليوم الذكري الرابعة والأربعون علي رحيل عميد الأدب العربي »طاها حسين» كما كان يحب أن ينطق اسمه، ومازلنا نطالب بالمباديء والأفكار التي نادي بها، كرائد من رواد التنوير في العصر الحديث ،كان يري أن التعليم مثل الهواء والماء لكل مواطن، رفض فكرة ان مصر عربية، بل كان يؤمن بأن مصر تنتمي لثقافة البحر المتوسط وليس للثقافة العربية،خاض ثلاث مع+ارك كبري الأولي ضد السلفية والجمود الديني، والثانية ضدالاستبداد السياسي، والثالثه ضد الظلم الاجتماعي والقيود الحديدية بين الطبقات. لم يكن أديبا وناقدا فحسب، بل كان دليلا علي نهضة ثقافية وتصور أساسي للثقافة وطريقة في التثقيف لا يمكن لأي مثقف أن يتجاهلها. تظل كتاباته نقدا وإبداعا وتاريخا عالما سحريا يمتلئ بالافكار والرؤي ويفيض بدروس الأدب وفنونه ويظهر مفاتن اللغة وطلاوتها. في هذه المناسبة توقفنا عند د. طه حسين حاضرا بأفكاره وآرائه ورؤياه من خلال مؤلفاته وعلاقاته بمبدعي عصره كيف كانت علاقته بهم ؟، وكيف كانت علاقاتهم معه؟. أحد صناع النور طه حسين علي سلامة: أديبٌ ومفكِّرٌ مصريٌّ، يُعَدُّ عَلَمًا من أعلام التنوير والحركة الأدبية الحديثة، امتلَكَ بصيرةً نافذة وإنْ حُرِم البصر، وقاد مشروعًا فكريًّا شاملًا، استحقَّ به لقبَ »عميد الأدب العربي»، وتحمَّلَ في سبيله أشكالًا من النقد والمصادرة. وُلِد في نوفمبر 1889م بقرية »الكيلو» بمحافظة المنيا. فَقَد بصرَه في الرابعة من عمره إثر إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يَثْنِ والده عن إلحاقه بكُتَّاب القرية؛ حيث فاجَأَ الصغيرُ شيخَه »محمد جاد الرب» بذاكرةٍ حافظة وذكاءٍ متوقِّد، مكَّنَاه من تعلُّم اللغة والحساب والقرآن الكريم في فترة وجيزة. وتابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسِبين إلي الجامعة المصرية سنة 1908م، وحصل علي درجة الدكتوراه سنة 1914م، لتبدأ أولي معاركه مع الفكر التقليدي؛ حيث أثارَتْ أطروحتُه »ذكري أبي العلاء» موجةً عالية من الانتقاد. ثم أوفدَتْه الجامعة المصرية إلي فرنسا، وهناك أَعَدَّ أُطروحةَ الدكتوراه الثانية: »الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الرُّوماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية »سوزان بريسو» عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامَتْ له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التي دعمَتْه وشجَّعَتْه علي العطاء والمثابرة، وقد رُزِقَا اثنين من الأبناء: »أمينة» و»مؤنس». وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفي 1942م عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفي 1950م أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية. وفي 1959م عاد إلي الجامعة بصفة »أستاذ غير متفرِّغ»، وتسلَّمَ رئاسة تحرير جريدة »الجمهورية». أثري المكتبةَ العربية بالعديد من المؤلَّفات والترجمات، وكان يكرِّس أعمالَه للتحرُّر والانفتاح الثقافي، مع الاعتزاز بالموروثات الحضارية القيِّمة؛ عربيةً ومصريةً. وبطبيعة الحال، اصطدمت تجديديةُ أطروحاته وحداثيتُها مع بعض الأفكار السائدة، فحصدت كبري مؤلَّفاته النصيبَ الأكبر من الهجوم الذي وصل إلي حدِّ رفع الدعاوي القضائية ضده. وعلي الرغم من ذلك، يبقي في الذاكرة: »في الأدب الجاهلي»، و»مستقبل الثقافة في مصر»، والعديد من عيون الكتب والروايات، فضلًا عن رائعته »الأيام» التي روي فيها سيرته الذاتية. رحل طه حسين عن دنيانا في أكتوبر 1973م عن عمرٍ ناهَزَ 84 عامًا، قضاها معلِّمًا ومؤلِّفًا، وصانعًا من صنَّاع النور. جنة الشوك جنة الشوك كتاب يضم مجموعة نصوص ليست بالاشعار ولا بالقصص وإنما هي مقطوعات زاد عددها عن المائة مقطوعة ونصف المائة، دونها المؤلف بقلمه واستخلص أفكارها من المجتمعات التي زارها وعاش بها، وهو يقصد بتدوينها نقد أبناء مجتمعه، وذم بعضهم، والسخط من البعض الآخر. وهذه المقطوعات أو النصوص دونها علي شكل فقرات حوارية جرت بين طالب وشيخه، أو بين أديب وصاحبه، أو بين الملك شهريار وزوجته شهرزاد. الكتاب يقدم لنا فنا قديما ولكن بشكل جديد، ينظم طه حسين فيه 150 مقطوعة من هذا الفن نثرا، تتنوع المقطوعات مابين الحكم والمواعظ والدعوة الي الخير، كما تتنوع بين الصعوبة علي الفهم والسهولة، ويبقي الكاتب مبدعا والقارئ حكما، الكتاب في مضمونه يماثل كتاب أصداء السيرة الذاتية للروائي نجيب محفوظ وهي مجموعة مقاطع للشيخ عبد ربه التائه بصور وحكايات مختلفة... في إحدي مقطوعات الكتاب التي جاءت تحت عنوان »قصور» في حواربين الفتي التلميذ واستاذه الشيخ قال الطالب الفتي لأستاذه الشيخ:أليس عجيبا أن تحدث الحوادث، وتلم الكوارث، ويصطرع العالم هذا الصراع العنيف، ونحن معنيون بصغائر الأمور ؟ قال الشيخ: فإن المتنبي لم يخطئ حين قال: علي قدر أهل العزم تأتي العزائم ولو استطعنا أكثر من ذلك لفعلنا. وفي مقطع آخر بعنوان »ملق» قال الطالب الفتي لاستاذه:ما بال قوم من العلماء يتحسسون من رأي الحكام في العلم ليتخذوه لأنفسهم رأيا قال الاستاذ الشيخ لتلميذه الفتي: يريدون ألايستأثر الناس من دونهم برضا الحكام. يقول طه حسين عن كتابه جنة الشوك إنه لا يريد من كتابه هذا إلا النقد الذي يسمونه بريئا في هذه الأيام والذي يوجه إلي ألوان من الحياة لا إلي أفراد بأعينهم من الناس. خواطر.. لها طعم الإبداع »خواطر» هو عنوان أحد إبداعات د. طه حسين الذي يتضمن مجموعة من المقالات النقدية لعدة كتب وروايات لعمالقة الأدب والفكر في الرواية والقصة كنوع من إلقاء الضوء حول هذه الاعمال بعرض ملخص لها ثم تقديم نقد أدبي، في قراءات أشبه بالكتابات الإبداعية لهؤلاء الأدباء والمفكرين، مثل ثروت اباظة، ابو العلاء المعري لعائشة عبد الرحمن، ابونواس، د.نجيب محفوظ ،انيس منصور، توفيق الحكيم ،، يوسف السباعي، والمبدع المظلوم ابو حيان التوحيدي، واخيراً رائعة دانتي » الكوميديا الالهية. اختار للروائي ثروت اباظة رواية» ثم تشرق الشمس » ورواية للكاتب الفرنسي المعروف جيرلبرت » كان فيما مضي» وهما روايتان تجمعهما نفس الفكرة بمعالجة مختلفة، عرض ملخص لكل منهما مع معالجة نقدية تكشف قيمة كل من العملين في مقال نقدي واحد ليعكس لنا اوجه التشابه والاختلاف وقدرة كل منهما علي المعالجة الروائية بعين ناقد لقصتين تناولتا نفس الموضوع حول الفرق بين الاجيال في مواجهة مشاكل الحياة. كما تضمن مقال نقدي آخرحول كتاب د.عائشة عبد الرحمن عن أبو العلاء المعري الذي كشف فية علاقة بين المؤلفة والشاعر من خلال دراستها لاعماله منذ كانت طالبة في الجامعة وقدرتها علي رسم صورة تقريبية له لجمهور القراء، ثم تعرض لحياة أبو نواس من خلال كتاب الاديب عبد الرحمن صدقي لنقل صورة كاملة لعصر الخلافة من الامويين الي العباسيين ووصف البيئة التي عاش فيها الشاعر، ثم انتقل لكتاب » حياة طبيب» للدكتور نجيب محفوظ وهو غير صاحب نوبل والذي يروي فيه قصة حياته كطبيب، ثم تناول بصورة نقدية لرائعة دانتي الكوميديا الالهية ترجمة أحمد عثمان والتي اثني فيها علي الترجمة التي ظهرت علي جزءين وهما »الجحيم »و » المطهر» والمترجم أحمد عثمان هو أول من ترجم الكوميديا الالهية باللغة العربية ترجمة دقيقة. ثم تناول كتاب » الجوانية» » أصول عقيدة وفلسفة » للأديب د. عثمان أمين وهو كتاب قرأه د. طه حسين أكثر من مرة استمتاعا فالمؤلف كما يقول طه حسين يقصد بكلمة الجواني ما يسميه الفلاسفة المنطقيون بالذهن أحيانا والعقل الخالص أحيانا أخري وما يسمي في القرآن الكريم » القلب » فالايمان لا يتم إلا إذا امتلأ به قلب الانسان.. الكتاب يضم العديد من أفكار وفلسفة عمالقة الفكر في ذاك الحين اضافة إلي فكر وتعقيب د. طه حسين مما أعطي الكتابة متعة فكرية وثقافة واسعة لعالم يضيق بأفكار رجعية متوحشة. من أدبنا المعاصر بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة، تسعي عيون النقاد، وتُعقد المقارنات. و»طه حسين» — الأديب والناقد الذي سَبَر أمهات الكتب التراثية — لم ينغمس في الماضي الانغماس التام الذي يضعه بمعزل عن حاضره، بل كان معنيًّا بمتابعة الحركة الأدبية الحديثة وتقييمها وتقويمها، فهو في كتابه » من أدبنا المعاصر» يقدِّم مراجعات نقدية متميِّزة لعدد من الكتب التي ألَّفها معاصروه، أمثال: محمد حسين هيكل وقصته »هكذا خُلقت»، ونجيب محفوظ وروايته »بين القصرين»، وعبد الله الفيصل وديوانه »وحي الحرمان»، وثروت أباظة وروايته »هارب من الأيام». ويناقش المؤلِّف كذلك مسائل أدبية ونقدية كالتجديد في الشعر، والواقعية كمذهب أدبي، وجمود اللغة وتجدُّدها، وتطوُّر الذوق الأدبي، كما يتعرَّض بالنقد لأداء مجامع اللغة العربية.. في قصة » بين القصرين لصاحب نوبل نجيب محفوظ قال عنها ان نجيب محفوظ في هذه الرواية مثل كتاب القصص العالميين، وأنها رواية لا تشعر فيها بفتور في أي موقف من مواقفها ولا تثير فيك احساسا بأن الكاتب علي اطالته قد ادركه شئ من الاعياء او اصابه شئ من التراخي أو ناله ما ينال الكتاب المطولين من هذا الجهد الذي يدعو الي شئ من الراحة. أخذ د. طه حسين يبين جماليات النص في لغته العربية الرصينة واصفا تفاصيل الرواية التي في هذا الزمن تعتبر رواية ضخمة مقارنة بالروايات التي لم تكن تتعدي المائتي صفحة. معاركه الأدبية خاض د. طه حسين في بداية حياته معارك أدبية نقدية لعل أشهرها هذه المعركة الأدبية التي دارت حول كتاب »تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، وقد ظل الحوار بينه وبين جرجي زيدان مشتعلاً فترة طويلة. أما كتاب »في الشعر الجاهلي»الذي صدر سنة 1936 فقد أثار زوبعةً من النقد حوله لم يُثرها كتاب آخر، حيث كان يري أن الشعر الجاهلي لا يُمثِّل الحياة العربية في العصر الجاهلي، ويؤكِّد أن هذا الشعر موضوع في العصر الإسلامي. ويقول الدكتور أحمد هيكل في كتابه »تطور الأدب الحديث في مصر»: »إذا تأملنا النظرة التي نظر بها الدكتور طه حسين إلي التاريخ العربي أولاً، وإلي الشعر العربي ثانياً وجدنا أن وراءها شعورا باستقلال الشخصية المصرية، يحمل علي عدم الارتباط بالتاريخ وبالتراث العربيين ارتباطاً يحمل علي إجلالهما أو التسليم بما اشتملا عليه أو استقر حولهما من قضايا. وليس يخفي ما وراء نظرة د. طه حسين كذلك من إحساس قوي بالحرية الفردية، وتشبُّع هائل بالروح الثورية، مما جعله يخرج علي الناس بهذه الآراء التي زلزلت أفكارهم وأثارت مشاعرهم، وجرّت عليه كثيراً من الخصومات والخصوم، حتي تجاوز الأمر الوسط العلمي والأدبي، وعرضت القضية بالبرلمان، وأوشكت أن تطوح بالمؤلف خارج الجامعة، لولا أنه هدّد رئيس الوزارة حينذاك بالاستقالة، فسكنت العاصفة إلي حين، واكتُفي بمصادرة الكتاب الذي أدخل عليه صاحبه بعض التعديلات التي لم تمس فكرته الأساسية، ونشره بعد ذلك باسم »في الأدب الجاهلي». ويقول الدكتور أحمد هيكل: »إن الخلافات الحزبية كانت من محرِّكات هذه الزوبعة، فلقد كانت الأغلبية البرلمانية وفدية حينذاك، وكان رئيس مجلس النواب هو سعد. ولذا انتقلت القضية إلي مجلس النواب لينال من طه حسين الموالي للأحرار الدستوريين، ولكن رئيس الوزراء حينذاك كان عبد الخالق ثروت، وكانت عواطفه مع الأحرار الدستوريين، وكان طه حسين قد جعل إهداء كتابه إليه، ومن هنا دافع عنه رئيس الوزراء علي حين هاجمه رئيس مجلس النواب. ونظراً لتهديد رئيس الوزراء بالاستقالة قد انتقلت القصة من مجلس النواب إلي النيابة التي صادرت الكتاب». في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت مع د. طه حسين وهي حوارات كثيرة، منها حوار أجراه محمد رفعت المحامي ،عندما سأله: »أنت أكثر من تُرجم له من أدبائنا إلي مختلف لُغات العالم، ويرجع ذلك إلي أن النقاد يروْن أن أدبك يعتبر نقطة بدء في دراسة الأدب العربي قديمه وحديثه علِّق علي ذلك بقوله: » ليس هذا، أظن أن السبب يرجع أصلاً إلي سهولة ترجمة بعض كتبي إلي غير اللغة العربية أو إمكان ترجمتها» وحينما قال لطه حسين: »إن قصة حياتك هي قصة المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين»، علَق علي ذلك قائلاً، في تواضع: »هذا كثير، إنها حياة الطبقة المتوسطة فقط. أما المجتمع كلُّه، فلحياته قصص كثيرة. أنا ابن طبقتي». وفي نهاية الحوار قال طه حسين إن أهم التحولات في حياته »ثلاث نقاط: الأولي: هي السفر لأوربا؛ لأنه حوّلني من التقليد إلي التجديد. والثانية: هي الزواج، لأنه أخرجني من وحدتي وأسعدني بنعمة الحب، والثالثة: هي إنجاب الأبناء، لأنه جعلني أشعر بالحنان وقسوة الحياة وتبعتها».