الكاتب محمد ناجي بدأ حياته شاعرا في السبعينيات ثم انتقل للرواية، ليكتب خافية القمر ولحن الصباح ومقامات عربية والعايقة بنت الزين ورجل أبله امرأة تافهة والأفندي وليلة سفر وتسابيح النسيان التي أوقعنا معه في حيرة هل هي شعر منثور أم تأملات وجدانية أم فن جديد يصعب تسميته. في حفل توقيع تسابيح النسيان قال ناجي : إن هذا الكتاب نثر ابن نثر ابن نثر.. وهو أيضا ذهني مباشر ليس فيه من اصطناع الخيال إلا قليلا مما يحلو به النثر. ولكن كان لابد من تقطيع السطور علي نحو خاص لإيضاح المعاني وفي ذلك ما يثير شبهة الشعر.. وأظن أن ذلك خرج بالنص إلي ما يمكن تسميته النثر المشعور.. وأصارحكم أنني أرتاح لهذه التسمية تجنبا للمشاكل." وأضاف "مشروعي الروائي مازال ممتدا ويركز علي الأحداث والرؤي التي عاشها جيلي بما فيها من انكسارات ومن أحلام." وتابع متحدثا عن روايته المنشورة (خافية قمر) "تناولت الصراع الذي نعيشه بين الماضي والمستقبل .. و(لحن الصباح) صورت الأبطال العائدين من الحروب لتهزمهم تفاصيل الحياة اليومية القاسية .. (مقامات عربية) جدارية فانتازية تسخر من واقعنا العربي .. (العايقة بنت الزين) جدارية اجتماعية صورت ضياع الرؤي وانكسار الأحلام .. (رجل أبله.. امرأة تافهة) تناولت انعدام التواصل.. (الأفندي) رصدت ضياع دور الطبقة الوسطي ..(ليلة سفر) تناولت الشقاق الذي يدب بين عناصر الأمة. "أما تسابيح النسيان فتأتي حاملة بين سطورها حالة من الوهج الإنساني .. يقول الروائي الكبير تحت عنوان " تسابيح النسيان ": آهِ أيّها النسيان ستائرٌ مسدلةٌ طبقة فوق طبقة لكل طبقةٍ لونٌ يحجب ما عداه الرماديُّ ذو المخالب والأنياب الأخضرُ ذو الأجنحة الورديُّ المُطرَّز بالنهودِ والقُبلات آه أيها النسيان بأي الألوان ستغطِّي عيوني في المشهد الأخير؟
العيون التي اخْتزنت كلَّ المُدِن والوجوه وأعادت ترتيبها علي نحوٍ تحبُّه كيف ستكون إطلالتها الأخيرة علي الذاكرة؟
تلك اليقظةُ في عينيك تدفعني إلي النسيان فيهما بريقٌ يكفي لرؤية أيامٍ كثيرة دعيني أنجذب إليك لتكون ملامحُك إسداليَ الأخير انظريني طويلا واختزنيني في ذاكرتك لأيامك الوفيرة المُقبلة
آه يا الحبيبة التي أكابدها أتحسَّس فراقَها في لمساتها هل أطمع أن تفسحي لي مكانا في أحلامِك يسكنه شئٌ منِّي؟ أظنُّ أنه يمكن أن يبقي شئٌ ما يسْطع علي شاشة نومك بين حينٍ وحين شئٌ طفيفٌ جدا مثل شعاع نجم غابر ابتلعته ثقوب العتمة منذ زمنٍ بعيد
في هذا الوقتِ المُتأخِّر لم يعد هناك متسعٌ للكثير قد أستطيع أن أستدرِج شفتيك إلي قبلة أو أنصب الفِخاخ للمسات يديك لأقيس بها الحرارة الباقية في جسدي أو أستعيد معكِ مذاق الأحضان المُحبَّة لكنني لا أستطيع أن أعدَ بفرحٍ يطول فذلك الذي يتملْملُ في بدني متأهبا للإنصراف ينبهِّني باستمرار إلي أنك تأخَّرتِ كثيرا وأن الوقت قد حان يقلق هدأتي القصيرة في أحضانك
كثيرون أولئك الذين يجرحون خلوتنا تتحسَّبين أنتِ للأنفاس وحفيف الأقدام دون أن تفْطِني لأولئك الذين يسكنون بصري أغْمضي عينيك وأسْلمي نفسكِ لطمأنينة القُبلات ربَّما أستطيع أنا أيضا أن أُرْخي جفوني وأتفادي أشباحا تطلّ خلف أحضانك
لا أستطيع أن أؤكد لك لكن ربَّما يُمْكنني أن أَعِد بأن أنتقي لكِ من ألبومات الذاكرة لقطات أبدو فيها مبتسما وواثقا وأن يكون طيفي في أيامك حضورا لطيفا لا يجرح ولا يخلِّف شجنا
ذلك وجه امرأةٍ محبَّة تطأطئُ رأسها للأحزان المُقْبلة تتكتَّم رعودها وتبرق بابتسامةٍ محيرِّة هل أستطيع أن أعدها بأن أخون توقّعاتها؟
وهل أستطيعُ أن أخمِّن بأي عينٍ ينظر الواقفون علي الشطوط إلي تلك الخيالات التي تمَّحي في الماء؟
لأول مرةٍ أيّها الفارس سيكونُ عليك أن تمضي وحيدا دون زخرفٍ أو جلبةٍ وبلا صحاب لن تُعِيرك امرأةٌ ذاكرتها أكثرَ من المسافةِ إلي أحضان رجلٍ آخر ولا يُمكنك أن تُحصي اولئك الذين سيذْرِفون دموعا كثيرة ليغْسلوا مخيِّلتهم من صورتك ستمضي طويلا وبلا نهاية خارجَ الزمانِ والألوان عاريا إلا من الوحْشة ويقول ناجي تحت عنوان "اعتذار العاشق" اه يا الحبيبة يا من غادرتِ زماني ومكاني إلي غير رجْعة لو أستطيع أن أتيَقّن من الوصول إليك لعبرت إلي هناك بقفزةٍ واحدة لكنني أخشي أن تكون المتاهة هنا علي الأقل شئٌ يدلُّ عليك ورقة.. صورة.. كلمةٌ علي هامش كتاب أغنيةٌ بأنفاس الذكري شئٌ يساعدني علي أن أتنسَّم طيفك أن أُؤكّد بحسمٍ أنه مرَّ من هنا لكن من يضمن ما يمكن أن يجري هناك في تلك العتمة التي ليس لها بدن ما زلت أتذكَّر ذلك الإيقاع الذي تمايلنا معه سويا خلف نافذةٍ زجاجيةٍ مزخرفةٍ برسوم قلوبٍ صغيرة في المطعم الفقير في حَيِّ "استقلال" لم يكن البحر بعيدا لكنه كان محجوبا بصفِّ من البيوت العتيقة تماماً.. مثل حزنك المستور خلف شفتين مجعَّدتين بالوَهن وقبلاتك الفوَّاحة بنكهة الفراق ( Those were the days my friend We thought they d never end ) تلك كانت أياما يا صاحبي لم يخطر ببالنا أن تنتهي أبدا ) كنا نهتزُّ سويا ونحن نسبق الإيقاع والمعني بخطوة وكل واحدٍ يخمّن في صمته أنه المشهدُ الأخير
برفَّة جفنٍ واحدةٍ تدخلين المتاهة آه يا الأخضر الفسيح المظلّل برموشٍ اصطناعية تداري الشعيرات الذابلة التي تقصَّفت في عذاب الإشْعاع الأخضرُ الذي يغْروْرقُ بشجن اللحن ويقطرُ في خلسةٍ لا أجرؤُ أن أتلصَّص عليها الأخضرُ الذي أسبحُ الآن في دموعه *** عازف الأكورديون العجوز علي جسر "مرمرة" ظلَّ يطاردُنا بحكمةٍ تقول: ( ثمَّة حزنٌ يُنسيك كلَّ الأحْزان وثمَّة فرحٌ يُنسيك الدنيا كلها لكنه لا يدوم ) لا أنا راغبٌ في هذا الحزن ولا أظنُّك كنتِ راغبةً في مثل ذلك الفرح.