أ. د. أحمد الطيب لقد غَمَرَتْ سُوقُ الأفكارِ في الآونةِ الأخيرةِ »اصطلاحاتٌ« صُكَّتْ فيما وراءَ البحارِ، ثمَّ صُدِّرَتْ إلينا كما تُصَدَّرُ البضائعُ والمنتَجاتُ والأغذيةُ وأدواتُ التجميلِ، وإذا كان مِن بين هذه المنتَجاتِ ما ثبتَ أنَّه ضارٌّ وخطَرٌ وملَوَّثٌ. فإنَّ مِن هذه الاصطلاحاتِ أيضًا ما ثبتَ أنَّه مُحَمَّلٌ ومُشَبَّعٌ برموزٍ وإيحاءاتٍ ونوايا، بعضُها مريبٌ، وبعضُها حمَّالُ أَوجُهٍ، وبعضُها مُوَظَّفٌ -عن عَمْدٍ- لخَلْطِ الأوراقِ، وتعويمِ المفاهيمِ وتداخُلِها، حتّي إنَّ أشهرَ هذه المصطلحَاتِ وأكثرَها دَوَرَانًا في الخطابِ الدّوليّ الآنَ وهو: مصطلحُ »الإرهاب« يُفرَّغُ مِن معناهُ إذا استُعمِلَ في دولةٍ، ثمَّ تُعَادُ تعبئتُه بمعنًي آخَرَ إذا استُعمِلَ في دولةٍ أخري. خُذْ مثلاً: مصطلحُ »حقوقِ الإنسانِ« وحَاوِلْ تطبِيقَهُ بمسطرةٍ واحدةٍ في الغربِ »الأنجلو أمريكيِّ« والشرقِ الإسلاميِّ، فسوفَ تَجِدُ مفهومَ هذا المصطلحِ يضطَرِبُ بينَ يدَيك اضطرابًا شديدًا حتّي لَيُخَيَّلُ لك أنَّ الإنسانَ الّذي تُطلَبُ لَه هذه الحقوقُ ليس هو الإنسانَ الّذي خلقَه اللهُ في طولِ الدنيا وعرضِها، وإنَّما هو الإنسانُ الأبيضُ فقط مِن بين الآدميِّين في أوربا وأمريكا تحديدًا. وهكذا لم يَعُدْ مِعيارُ الصدقِ والكذبِ في مثلِ هذه المصطَلَحاتِ معيارًا موضوعيًّا ثابتًا، بل عادَ معيارًا شخصيًّا خالصًا، راقصًا علي كلِّ المتناقضاتِ، فما أراهُ حقًّا فهو حقٌّ حتّي لو كان في نفسِه باطلا وزورًا، وما أراهُ باطلا فهو كذلك حتَّي لو كان حقًّا مشروعًا لك. وهذه سَفسَطةٌ جديدةٌ وجريئةٌ، كُنَّا نَعتقدُ أنَّها وَلَّتْ إلي غيرِ رَجعةٍ منذُ عهدِ سُقراطَ، ذلكم الفيلسوفُ اليُونَانِيُّ الّذي نَذَرَ حياتَه لمحارَبَةِ حالَةٍ مِن الفوضي الفِكريَّةِ شديدةِ الشَّبَهِ بالحالَةِ التي تُطِلُّ علينا بوجهِها الآنَ، وأعني بها: حالَةُ السّوفسطائيِّينَ الّذين حاولوا إفسادَ شبابِ »أثينا« بتعليمِهم أفانِينَ مِن تزييفِ المفاهيمِ وتحريكِها وتعويمِها مِن أجلِ الثّروةِ والمالِ. ولا يخفَي علي القارئ الكريم أنَّ سياسةَ »الكَيلِ بمِكيالَينِ« هي مِن وراءِ أزمةِ تزييفِ المفاهيمِ واضطرابِها، لأنَّ هذه السياسةَ لا بُدَّ لها مِن أكاذيبَ ومفترياتٍ تسعي مِن بين يديها ومِن خلفِها لتقومَ بدورِ المساحِيقِ الّتي تَسترُ وجهًا شديدَ القُبحِ لا يمكنُ سترُه، وعُدْنَا مِن جديدٍ لمناقشةِ البدهيَّاتِ وتوضيحِ الواضحاتِ، فالمقاومةُ إرهابٌ، والتدميرُ والإبادةُ دفاعٌ وحقٌّ مشروعٌ، وسحقُ الحضاراتِ تنويرٌ، والتمسُّكُ بالدِّينِ أصوليةٌ وظَلامِيَّةٌ ووحشيةٌ، وتدميرُ الأخلاقِ والشذوذُ حُرِّيَّةٌ وحقٌّ مِن حقوقِ الإنسانِ، والبَذَاءُ حُرِّيَّةٌ في الرأيِ، إلي آخرِ هذه المتاهاتِ الّتي يُعاني منها أيُّ باحثٍ أَلِفَ تحديدَ المفاهيمِ وضرورةَ ذلك في تحريرِ محلِّ النزاعِ في هذه المسألةِ أو تلك. وليستْ المسألةُ مسألةَ نزاعٍ حولَ »اصطلاحٍ« فَقَدْ تعلَّمنا أنَّه لا مُشَاحَةَ في الاصطلاح، ولكِنَّ المُشَاحَةَ كُلَّ المُشَاحَةِ في تزييفِ مفهومِ المصطلحِ والعَبَثِ بمدلولاتِ الألفاظِ، والمصاديقِ الّتي ينطبقُ عليها مفهومُ اللَّفظِ أو لا ينطبقُ، فهنا المعركةُ الحقيقيةُ، لأنَّ محاولاتِ التزييفِ كلَّها تَتِمُّ تحتَ لافتةٍ تُوضَعُ في غيرِ موضِعِها الصحيحِ. وهنا أيضًا يُصبِحُ »الحوارُ« -بمعناه الدقيق- أوَّلَ »آلةٍ« يجبُ اللُّجوءُ إليها لِهَتْكِ هذه الأقنعةِ الزائفَةِ، لإحقاقِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ. وحديثي هذا يُعنَي ببيانِ: أ - أنَّ الحوارَ هو منهجُ الخطابِ في القرآنِ الكريمِ للمسلمِينَ وغيرِ المسلمِينَ. ب - وأن هذا المنهجَ لم يكنْ مُجَرَّدَ نظرَّيةٍ تَهِيمُ في فراغٍ، بل نزلتْ إلي أرضِ الواقعِ وطبَّقَها النبيُّ صلي الله عليه وسلم ومَثَّلَتْ حَجَرَ الزاوِيَةِ في بناءِ الحضارةِ الإسلامِيَّةِ. ج - وأنَّ الحضاراتِ الأنجلو - أمريكيَّةِ لم تَرُدِّ الجميلَ لحضارةِ الإسلامِ كما ينبغِي. ولكن ماذا عن الحوارِ كآلةٍ أو منهجٍ في خطابِ الإسلامِ للمسلمِينَ وغيرِ المسلمِينَ؟ وما هي مظاهرُ هذا الحوارِ؟ وهل للحوارِ الإسلاميِّ قواعدُ وآدابٌ؟ وما هي؟ فيما يتعلَّقُ بالنقطَةِ الأُولَي: فإنَّ أيَّةَ قراءةٍ في القرآنِ الكريم تُغنِينَا عن مَئُونَةِ الجوابِ الصحيحِ في هذه المسألةِ؛ لأنَّ هذا الدِّينَ القيِّمَ هو في المقامِ الأوَّلِ دِينُ العقلِ، ويترتّب علي ذلك مَنطقيًّا، أنه لا بُدَّ أن يكون دين حوارٍ، إذ لا سبيلَ إلي مخاطبةِ العقلِ إلا بما هو قابلٌ للحوارِ والنظرِ والدَّلِيلِ، وكونُ العقلِ أصلا في الخطابِ القرآنيِّ مِمّا لا يَقبلُ نِزاعًا ولا خِلافًا. وحسبُك أنَّ تعلمَ أنَّ مادَّةَ عقلٍ، وعِلْمٍ، وفِكْرٍ، ونَظَرٍ، وفِقْهٍ بمشتقّاتها وَرَدَتْ في القرآنِ الكريمِ أكثرَ مِن مِئةٍ وعشرِين مرّةً. وأنَّ القرآنَ لَفَتَ الأنظارَ في تَكرارٍ عجيبٍ إلي كُلِّ وظائفِ قُوَي العقلِ بألفاظٍ شَتَّي مِثلِ: يعقلونَ، يتدبَّرُونَ، يُفَكِّرُونَ، يَنظُرُونَ، يتذكَّرُونَ، يَسمَعُونَ، يفقَهُونَ، يعلَمُونَ. وإذا كان الإسلامُ قد عَوَّلَ في الخطابِ الإلهيِّ الّذي يُبَلِّغُهُ الأنبياءُ إلي الناسِ، علي العقلِ، والعقلِ وحدَهُ، فإنَّه أَلْغَي أيَّةَ وسائطَ أخري مِن كهنوتٍ أو مُمَثِّلٍ لحقٍّ إلهيٍّ يتوسَّطُ بينَ اللهِ والناسِ. وجديرٌ بالذِّكْرِِ أنَّ اعتمادَ الإسلامِ علي العقلِ أوَّلا، وعلي الحوارِ تَبَعًا، لم يكن علي المستوَي النَّظرِيِّ أو علي مستوَي النُّصُوصِ القرآنيَّةِ فقط، بل كانَ علي مستوي التّطبيقِ العَمَليِّ الّذي جسَّدَتْهُ سِيرَةُ هذا النّبيِّ الكريمِ مع المسلمِينَ وغيرِ المسلمِينَ علي السواءِ. وهنا أنتَقِلُ إلي النّقطةِ الثانيةِ، وهي مظاهرُ حوارِ الآخَرِ والاعترافُ بِهِ، وفي هذا الصّددِ يُطَالِعُنا أوَّلُ ما يطالعُنا، هذه المعاهداتُ السياسِيَّةُ الّتي عقدَها النبيُّ في المدينةِ المنوَّرَةِ بين المسلمِينَ واليهودِ، وقد صِيغَتْ في شكلِ وثيقةٍ سياسِيَّةٍ، تعكِسُ صورةً فريدةً مِن صُوَرِ تسامُحِ الإسلامِ واعترافِهِ بالأديانِ الأخري. هذه الوثيقةُ تَنُصُّ علي مُوادَعةِ اليهودِ، ولِدَرَجَةِ أنَّها اعتبرَتهُم أمَّةً مع المسلمِينَ جَنبًا إلي جَنبٍ، ففي البَندِ الخامِسِ والعِشرينَ مِن هذه الوثيقَةِ التاريخيَّةِ، يُعلِنُ النبيُّ : أنَّ يهودَ بني عوفٍ أمةٌ مع المؤمنِينَ، لليهودِ دينُهم، وللمسلمِينَ دينُهم، إلا مَن ظَلَمَ نفسَهُ وأَثِمَ، فإنَّه لا يُوتِغُ (لا يهلك) إلا نَفْسَه وأهلَ بَيتِه. بل قد تعجبْ وأنتَ تقرأُ هذا البندُ في روايةٍ أخري تقولُ: »وإنَّ يهودَ بني عوفٍ أُمَّةٌ مِن المؤمنين« بما قد يعني أنَّهم جزءٌ مِن الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ. ويَنُصُّ البندُ السابعُ والثلاثون علي أنَّ: »علي اليهودِ نفقتُهم، وعلي المسلِمين نفقتُهم، وإنَّ بينَهم النصرَ علي مَن حاربَ أهلَ الصحيفةِ، وإنَّ بينهم النُّصحَ والنَّصيحةَ والبرَّ دونَ الإثم«ِ. وقد ذَكَرتِ الوثيقةُ يهودَ بني عوفٍ كأُنموذَجٍ أُلْحِقَتْ بِهِ كُلُّ قبائلِ اليهودِ الأخرَي وسمَّتْها قبيلةً قبيلةً، واستَقَلَّ بالنصِّ علي كُلِّ قبيلةٍ بندٌ مِن بنودِ هذه الوثيقةِ النبويَّةِ الكريمةِ. وتستطيعُ أن تقولَ الشيءَ نفسَه وأكثرَ منه بالنسبةِ لموقفِ الإسلامِ ونبيِّ الإسلامِ مِن المسيحيَّةِ ففي القرآنِ الكريمِ كلامٌ طيبٌ عن النصاري، وفيه سيرةٌ عطرةٌ وأوصافٌ نبويَّةٌ رائعةٌ تليقُ بمكانَةِ سيدنا عيسي عبدِ اللهِ ورسولِه. وفي القرآنِ الكريمِ سورةٌ كاملةٌ اسمُها سورةُ الرُّومِ، والآياتُ الأُولي مِنها تحمِلُ بِشارةً لنَصارَي الرُّومِ، وتَعِدُهم بالنَّصرِ علي أعدائهم في بضعِ سنينَ، وكان المسلمونَ يُحِبُّونَ أن ينتصرَ الرُّومُ لأنَّهم نَصارَي، وكانت عاطفةُ المشركِينَ مع الفرسِ الوثنيِّينَ في ذلك الوقتِ، وجاءتْ فرحةُ المسلمِينَ غامرة وكبيرة بانتصارِ الرُّومِ. ولما اشتدَّ أذي أهلِ مكَّةَ علي المسلمِينَ، وفكَّرُوا في الهجرةِ خارجَ مكَّةَ قالَ لهم النبيُّ :إنَّ بأرضِ الحبشةِ ملكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه فالحقوا ببلادِه حتّي يجعلَ اللهُ لكمْ فرجًا ومخرجًا مِمّا أنتمْ فيه تقولُ السيِّدَةُ أمُّ سلمةَ زوجُ النبيِّ : فخرجنا إليهِ -إلي النجَّاشِيِّ- أَرْسَالا حتَّي اجتمعنا به، فنزَلنَا بخيرِ دارٍ إلي خيرٍ جارٍ آمَنَنا علي دينِنا ولم نخشَ مِنه ظلمًا. وهذا الملكَ الّذي التجأَ إليه المسلمون وأَمِنُوا في جِوارِه علي دينِهم وحياتِهم هو ملكٌ مسيحيٌّ يحكمُ شعبًا مسيحيًّا ودولةً مسيحيَّةً. ملمحٌ آخرُ يتَّضِحُ فيه حوارُ الإسلامِ مع أديانِ أهلِ الكتابِ، يتمثَّلُ هذه المرَّةَ في اكتسابِ المسلمِ حقًّا شرعيًّا في الاقترانِ بزوجةٍ يهوديَّةٍ أو مسيحيَّةٍ، تَبْقَي علي دِينِها، وتكونُ شريكةَ حياتِه وأمَّ أولادِه وربَّةَ بيتِه، وكُلُّنَا يعلمُ عاطِفَةَ المودَّةِ والحنانِ والإيثارِ الّتي تُثْمِرُها العلاقَةُ الزوجِيَّةُ والخُلْطَةُ بينَ الزّوجَينِ، وأنَّه بمقتضَي هذا الحقِّ الشّرعيِّ فلا حَرَجَ علي المسلمِ أن يحتفِظَ بما شاءَ وما استطاعَ مِن هذه العواطفِ النّبيلةِ، ليُبادِلَ بها شريكةَ حياتِه المسيحيَّةَ أو اليهودِيَّةَ. وإذًا فالإسلامُ يَعترِفُ بأهلِ الكِتابِ ويَقْبَلُهُم، ويُقِيمُ معهم علاقاتٍ تَرقَي إلي تَكوينِ أسرةٍ مُسلِمَةٍ تَعتَمِدُ علي زوجةٍ يهوديّةٍ أو مسيحيّةٍ، ولا يجدُ الإسلامُ غَضاضةً في ذلك، وكُنَّا نتوقَّعُ أنْ يتوجَّسَ الإسلامُ مِن اليهودِ أو مِن غيرِهم، ويحذِّرُ المسلمَ مِن الاختلاطِ بهم والرُّكُونِ إليهم، خصوصًا بعدَ ما أظهَرُوا عَداءَهم وبُغضَهم للإسلامِ والمسلمِينَ، ولكن وجدنَا القرآنَ الكريمَ الّذي نَبَّهَنا إلي هذا العَداءِ هو نَفْسُه القرآنُ العظيمُ الّذي لا يُصَادِرُ علي أتباعِه قَبُولَ أهلِ الكتابِ إلي درجَةِ المُصَاهَرَةِ كما هو معلومٌ. إنَّ هذا المستوي مِن العَدلِ والإنصافِ والاعترافِ بالآخَرِ، لا يُعرَفُ إلا لهذا الدِّين القيِّمِ، ولن تتَّسِعَ له شريعةٌ أُخري كشريعةِ الإسلامِ. ولكم أن تُقَارِنُوا بين هذه الصّورةِ مِن الاعترافِ بالآخَرِ وبين شرائعِ المللِ الأخري، ومنها ما يُصَادِرُ حقَّ التزاوُجِ بين اثنينِ إذا كان هذا مِن طائفةٍ وهذه مِن طائفةٍ أخري، حتّي لو كانا ينتميانِ إلي دِينٍ واحدٍ. والحضارةُ الإسلامِيَّةُ أيضًا حضارةُ حِوارٍ في المقامِ الأوَّلِ، ولن أَستَرسِلَ في استعراضِ تاريخِ هذه الحضارةِ العظيمةِ الّتي سادَتِ العالَمَ في أقلِّ مِن مِئةِ عامٍ بعدَ نزولِ القرآنِ الكريمِ، والّتي ما كانَ لها أن تنتَشِرَ بهذه الصورةِ الّتي أذهَلَتْ علماءَ التاريخِ والحضارةِ، لولا أنَّ هذه الحضارةَ كانت ترتَكِزُ علي وسيلةِ الحوارِ والحُجَّةِ والإقناعِ. ولكن تكفي نظرةٌ سريعةٌ علي خارطةِ التراثِ في هذه الحضارةِ، لتتعَجَّبَ مِن قُدرةِ أهلِها علي هضمِ ثقافاتِ الأُمَمِ الأخري، وتَمَثُّلِها وتطويعِها وصِياغتِها مِن جديدٍ صياغاتٍ أفادت الإنسانيةَ في الشّرقِ والغربِ علي السّواءِ. وإنَّ نظرةً سريعةً أيضًا علي تراثِ علمائنا الأفذاذِ مِن الفقهاءِ، والفلاسفةِ، والمفسِّرِينَ، والأصوليِّينَ، والمتكلِّمِينَ، والأطباءِ، وعلماءِ الفلكِ، وغيرِهم، لَتُثْبِتَ أنَّ الحضارةَ الإسلاميَّةَ لم تكن أبدًا حضارةَ صراعٍ أو نَفيٍ للآخَرِ وسَحْقِه وإزالةِ ملامحه وقَسَماتِهِ، كيفَ والقاعدةُ الّتي أسَّسَها لها رسولُها الأعظمُ تُقرِّرُ أنَّ: »الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا«. وكان مِن المنتظَرِ أن يَمُدَّ الآخرُ يَدَ الاعترافِ والتقديرِ للإسلامِ دِينًا وحضارةً، وأن يقابِلَهُ بحوارٍ جميلٍ، ولكنَّنا نؤكِّدُ -ونحن مطمئنُّونَ- أنَّ ردَّ فعلِ الآخَرِ -في مُجمَلِهِ- جاءَ مُخيِّبًا للآمالِ وباعثًا للآلامِ، ولن أحدِّثكُم عن نقضِ العهودِ والخياناتِ الّتي عاني منها النبيُّ والمسلمون الأوائلَ في التاريخِ القديمِ، وأكتفي بالإشارةِ إلي صُوَرٍ أو إسقاطاتٍ أجهدَ المستشرِقُون والمبشِّرُونَ أنفسَهم في تنزِيلها علي الإسلامِ دِينًا ورسولا وقرآنًا.