أ. د. أحمد الطيب في هذا الوقت الذي يكاد يختلط فيه الحابل بالنابل، ويعم فيه التشويش والتخبط بحيث تلتبس الحقائق بالأوهام، ويتلبس فيه علي المفكر طريقه إلي استقامة النظر وسداد الحكم يصبح من المفيد أن نتذاكر بعض الحقائق الأولية، التي تردنا إلي المنطق الفطري السليم . في ذلك الصدد هناك أمرانِ بهما يتميَّزُ الإنسانُ في المقامِ الأوَّلِ عن بقيَّةِ الكائناتِ الّتي تُشارِكُه في الحياةِ علي مسرحِ الكونِ، أوَّلُهما: التفكيرُ أو العقلُ، وثانيهما: الكلامُ أو اللُّغةُ، وبرغمِ ما يُقالُ مِن أنَّ الحيوانَ يُشارِكُ الإنسانَ في بعضِ العمليَّاتِ المُعقَّدَةِ كالتفكيرِ والذكاء، فإنَّ مما لا شكَّ فيه أنَّ الإنسانَ يُفارِقُ كُلَّ أنواعِ الحيواناتِ الأخري بقُدراتٍ ذهنية لا نجدُها عند هذه الحيواناتِ، وذلك مثلُ قدرتِه علي نقلِ أفكارِه وخواطرِه إلي خارجِ ذاتِه، بل الإنسانُ هو الكائنُ الوحيدُ الّذي يتمتَّعُ بالقدرةِ علي الحكمِ بالصوابِ والخطأ، أو الصدقِ والكذبِ علي ما يراهُ ويسمعُه، وهو الكائنُ الوحيدُ أيضًا الّذي يتمتَّعُ بقُدْراتٍ ذهنيَّةٍ مُعَقَّدَةٍ تتمثَّلُ في مجالِ المُقايَسَةِ والمضاهاةِ والاستنتاجِ والاستنباطِ وربطِ النتائجِ بمقدِّماتِها. وإذا أردنا أن نصفَ الإنسانَ بصفةٍ تعزِلُه تمامًا عن بقيَّةِ الكائناتِ الأخري، فإنَّ بإمكانِنا أن نصفَه بأنَّه »كائنٌ مُفَكِّرٌ«. ولا يعني ذلك أنَّ الإنسانَ ما دامَ مُفَكِّرًا فهو يُفَكِّرُ دائمًا بطريقةٍ منطقيَّةٍ صحيحةٍ، بل هو -علي العكس- كثيرًا ما يُخْطِئُ في استعمالِ عقلِه أو تفكيرِه الاستعمالَ السليمَ، فيستنتجُ نتائجَ خاطئةً من مقدِّماتٍ صحيحةٍ أو مِن مُقدِّماتٍ خاطئةٍ أيضًا، وقد يلتبِسُ عليه الأمرُ في التفكيرِ، فيظنُّ أنَّ »أ« علَّةٌ في »ب« بينما العلَّةُ الحقيقيَّةُ قد تكونُ »ج« مَثلًا، وإذا كان مِن المُسَلَّمِ به أن يُخْطِئَ الإنسانُ في استعمالِ لُغَتِهِ وفي اختيارِ ألفاظه؛ للتعبير السليم الواضح عن مكنونات نفسه، وأحكام عقله، وبالتالي يُصبِحُ في حاجةٍ إلي قانونٍ يُرَاعِيهِ في الكلامِ ليعصِمَه عن الخطأ الّذي قد ينشأُ مِن استعمالِ اللُّغةِ استعمالًا خاطئًا، وهو ما تكفَّلَ به علمُ النحوِ أو علوُم اللُّغةِ بشكلٍ عامٍّ، فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإنسانَ محتاجٌ أيضًا إلي قانونٍ يُرَاعِيه ليعصِمَه عن الخطأ في التفكيرِ. هذا القانونُ الّذي تشتدُّ إليه حاجةُ الإنسانِ دائمًا وبخاصة الإنسان المعاصر باعتبارهِ كائنًا مُفَكِّرًا هو: »علم المنطقِ«. فمراعاةُ قواعد المنطقِ أو القانونِ المنطقيِّ تحولُ دون وقوعِ الإنسانِ في الخطأ في التفكيرِ، أو في أقل تقدير تقلل من ذلك . هذه دعوة بسيطة مخلصة إلي ترشيد حياتنا بترشيد فكرنا، وإلي تعلم الإنصاف والموضوعية عندما نحكم علي الأشياء أو الأشخاص أو الأفكار، وإلي تحري المعلومات الصحيحة الموثقة، وإعمال ميزان العقل، وشروط التفكير السليم في استنباط النتائج منها، ولعل ذلك كله كما قال أسلافنا ومنهم الإمام الغزالي وغيره - بعض ما يستفاد من الآية الكريمة (25) من سورة الحديد : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فالكتاب هو الوحي، والميزان هو العقل واستخدامه بأسلوب منطقي سليم؛ وبهما يقوم الناس بالقسط وترشد حياتنا الفكرية، وحياتنا العامة بإذن الله .