من حين لآخر يحدث شيء ما نستعيد معه بعض ثقة في وجود معايير منزهة ماتزال موجودة عند تقدير أمور أو تقييم أشخاص... والتقدير الجارف الذي تبدي تجاه المواطن الشريف والإنسان الراقي أحمد ماهر والمشاعر الخالصة مصفاة من كل غرض تلك لهي شيء نادر قد يعيد بعض الثقة. رحيله المفاجئ أصاب بالصدمة كل من عرفوه عن قرب فمن الناس من تزيد أقدارهم كلما اقتربت منهم أكثر، ولقد عرفتهما أحمد ماهر وقرينته هدي لسبع سنوات عن قرب، في مرحلة التحول الأهم في عمري المهني.. لعل القارئ لاحظ أنني تناولت اسمه في هذه السطور مجردا من الألقاب سفيراً كان أو وزيراً تأكيدا مني علي إحدي مميزات شخصيته التي تأكدت بتجاوزه لهيلمان المناصب وحيثيات الكراسي بكل سهولة ويسر وهذا شيء نادر في مجتمعنا، ولذا اختار التمهل قليلا لأن هنا تبرز أحد أهم معالم شخصيته التي تثير الإكبار له.. بعد أيام قلائل لخروجه من منصب الوزير زرته في بيته للاطمئنان علي صحته فوجدته موفور العافية بأطيب حال والأهم كانت حالة التوازن النفسي والصفاء الذهني التي احتوته حتي اقترحت تحويل الزيارة إلي حديث للنشر وقد حدث... إنما للحقيقة كان الدافع عندي مختلفا، فنحن هنا ربما دون العالمين مازلنا أسري العقدة القديمة لمفهوم الخروج من السلطة، خروج مسئول عن موقعه أشبه بنكبة عليه تستدعي المواساة أو المؤازرة ونحن معك ولا يهمك كأنما هو شخص في محنة، مع ان الخروج من المنصب بعد حين هذا قاعدة ولكننا ورثنا المفهوم عن عهود سابقة، الخروج من منصب وزاري أو غير وزاري يعني انه مغضوب عليه وفي حكم المنتهي راحت عليه وكأنما زالت عنه النعمة وخرج من الجنة وليس أمامه غير ان يعتكف طويلا أو قليلا.. كبار السابقين من انسلخوا عن الهالة بمثل السهولة واليسر والثقة بل وبالسرعة التي تجاوز بها أحمد ماهر هذا كله واندمج في الحياة العامة بلا عقدة منصب ولا وظيفة جاهزة بانتظاره.. ربما هي تركيبته الخاصة بنشأته وثقافته ما أتاح له هذا الانتقال الطبيعي إلي حياة عامة عادية، أوجد فيها طريقا وأسلوبا يتفق واختياراته. أحمد ماهر هذا مدرسة دبلوماسية في حد ذاته، عموما في تقييم الشخصيات لا أقبل علي أسلوب المقارنة بين هذا وذاك أو المفاضلة بين سابق ولاحق وإنما الشخصيات القديرة تقيم عندي علي بعضها لكل مدرسته في حد ذاتها خصوصا مع جيله ومنهم دبلوماسيون أفذاذ كل قائم بذاته وأحمد ماهر بكل تأكيد مدرسة بحق، وتجربة السفير في واشنطن غيرها في كل العواصم.. ومع وافر الاحترام لجهود جميع الدبلوماسيين إلا ان رئيس البعثة الدبلوماسية في واشنطن يحتاج مواصفات استثنائية فمبدئيا لابد وأن يتوافر له جلد غير عادي علي العمل وقدرة فائقة علي الاستيعاب واستخلاص الصورة دون إغراق في التفاصيل، فلا توجد عاصمة أخري في الكون تتعدد فيها مراكز القرار وتتسع دوائر الحكم وتتعدد مواقع التأثير علي نحو العاصمة الأمريكية.. في العواصم الأخري ترتكز اتصالات السفير علي وجهة واحدة أو اثنتين، وزارة الخارجية في المقام الأول واتصالات جانبية مع شخصيات قريبة من الحكم، أما واشنطن هذه متعددة الوجهات، فلا حاكم حوله دائرة بل توجد دوائر، غير ان للحكم جناحين لكل جناح مؤسساته ورجاله.. فلا توجد عاصمة تحتاج لمثل هذا التشعب في المتابعة والاتصالات ما بين البيت الأبيض والخارجية والبنتاجون أما الكونجرس فهذا دولة أخري بمجلسيه ولجانه واجتماعاته وتحقيقاته تعكس ما يدور في أحشاء البلاد.. ثم لا توجد عاصمة أخري بها كل ذلك الكم من مراكز الدراسات والأبحاث ودوائر الفكر السياسي والتنظيمات غير الحكومية وكلها تؤثر بطريق مباشر وغير مباشر في صناعة القرار.. فلا توجد عاصمة تتطلب مثل هذا الكم من المتابعة اليومية لمجرد الإلمام بما يجري وهذا غير بند الاتصالات، وضرورات القراءة المتأنية لما ينشر من دراسات وأبحاث وصحف دورية ومقالات رأي، ناهيك عن إعلام لا يتوقف ليلاً مع نهار.. فكيف يدبر السفير وقتا لهذا كله ويتسع أيضا للمناسبات الاجتماعية والزيارات المفاجئة والشخصيات الوافدة وواجبات الضيافة والحفاوة وما أكثر الطوارئ من هذه الألوان.. كيف يحشر موعدا بين جدول أعمال مشحون، ويوجد وقتا للتنقل والمجاملات والاتصالات؟ يقول: انه تنظيم الوقت، أما ملاحظتي الشخصية فإن سر أحمد ماهر يكمن في منهجيته وفق تكوينه ذاته وأسلوب حياته وجود المنهج أساسي في حياته، ومن هنا ذهنه المرتب ورؤيته الثاقبة والتصور واضح المعالم في تحليله للأحداث.. مرة سألته عن الفارق بين العمل اليومي كسفير سابق في موسكو (علي عهد السوفيت) وفي واشنطن.. قالها بروح الدعابة: الفارق بسيط من عربة تجرها الجياد إلي صاروخ منطلق أرض جو.. ولا عجب إذن من فرط الانهاك الذي انغمس فيه أن أجري عملية فتح قلب في واشنطن.. (سبق وأجري من قبل السفير عبدالرؤوف الريدي عملية فتح قلب في واشنطن!). لا أنسي دعمه لي طوال تواجدي هناك وتقديمي علي أحسن الوجوه كلما واتت فرصة، ولا أنسي تكريمه قبل عودتي النهائية ولا أنسي المعرض السنوي للكتاب هذا العام وحضوره الندوة التي أقامتها الهيئة العامة لعرض كتابي عن الأمريكيين وإسهامه في المناقشة وشهادته التي تساوي عندي ما هو أكثر من نيل الدكتوراه. لهفي علي قرينته، نصفه الآخر، من هيأت البهجة والبسمة لحياتهما بأسلوبها وأجوائهما واهتمامها بالتفاصيل.. زوجان يكمل كل منهما الآخر فما أقسي وئام الانسجام عند انسحاب أحد طرفيه عن الآخر.