«.. ولأنه يحلم بمستقبل رسم معالمه، يصطدم بآمال معلقة عليه، فمن حوله سمحوا لأنفسهم أن يحلموا بدلاً منه، ويزعموا أنهم يعرفون مصلحته أكثر!» الإثنين: أصوات متداخلة.. كلمات أقرب إلي الصرخات.. علي الطرف الآخر، شخص أو أشخاص استخدموا خاصية «الاسبيكر». اضطررت لإغلاق الخط بعد أن نفد صبري. أقل من دقيقة مضت، ثم عاد الهاتف يواصل رنينه الزاعق، فيما يشبه استغاثة غريق! - نعم.. آلو.. يا عمو، أرجوك انقذني من ضغوط لم أعد أحتملها قبل أن أرد، تداخلت الأصوات مرة أخري: شوف يا سيدي الولد الذي لا يعرف مصلحته - أنا لا أفهم ماذا تقصد؟ الغبي حصل علي أكثر من 97٪ علمي - ألف مبروك. بلا مبروك، بلا زفت، انه يريد أن يهدر كل ما أنفقناه بعشرات الآلاف ويدرس فن، الولد فقد عقله! - ممكن اسمع وجهة نظره؟ أخيراً، وجدت من يمنحني فرصة لسماع رأيي، الحكاية باختصار شديد انني لا أجد نفسي، ولا أتصور مستقبلي بعيداً عن الفن، بينما كل البيت «يستخسر» المجموع الكبير في دراسة الفن!. لن أزعج القاريء العزيز بتفاصيل المكالمة التي تجاوزت الأربعين دقيقة، يحاول أطرافها انتزاع موافقتي علي وجهة نظر، والانتصار لرؤية لا تلتقي أبداً مع ما دونها. انها حكاية تتكرر كل عام، خاصة في منازل المتفوقين، شاب لا يحيد عن التفوق، لكنه يميل إلي هواية ما، أو نوع من الدراسة ولا يتطلب الالتحاق بالكلية التي ترضيه مجموعه الكبير، ولأنه يحلم بمستقبل رسم معالمه، يصطدم بآمال معلقة عليه فمن حوله سمحوا لأنفسهم أن يحلموا بدلاً منه، ويفرضوا ما يرونه الأكثر ملاءمة، ويزعموا انهم من يعرف مصلحته أكثر منه لأن صغر عمره، وقلة حكمته، وضآلة خبرته عوامل لا تسمح له أن يقرأ مستقبله كما ينبغي! ................................. حكاية قديمة متجددة، تتوارثها الأجيال. حين تعود بي الذاكرة إلي عقود مضت، أكاد أسمع صوت والدي وأمي رحمهما الله - يتجادلان: - دعيه وشأنه، انه يريد أن يدرس الإعلام، فلماذا يلتحق بالقسم العلمي؟ إنك تجني علي مستقبله، انه ذكي، فلماذا لا يكون طبيباً أو مهندساً؟ ويطول السجال بينهما، لكن أبي يدعمني في السر والعلن، ويمضي معي لآخر الشوط، حتي عندما ظهرت نتيجة الثانوية العتيدة، لا يطمع ولا يضغط لألتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث يؤهلني مجموعي، لكنه يبارك اختياري في دراسة الإعلام، مؤكداً للجميع أن حقي في رسم مستقبلي يبدأ مما أقرر دراسته، فليس من العدل أن يختاروا لي ثم يحاسبوني. ................................. دارت عجلة الزمن دورة كاملة، وكان اختبار القدر لي، ابنتي البكرية تتنفس فناً، ولا تحلم إلا بدراسته، ولا تتصور نفسها بعيداً عن الرسم والألوان والتصميم و.... و.... ولم نتردد ووالدتها وأنا لحظة في دعم اختيارها .. تذكرت أبي، وكيف كان ديمقراطياً معي، داعماً لاختياري، وشعرت أنني أخون نفسي إن لم أكن إلي جانب ابنتي فيما اختارته من دراسة الفن.. لن أنسي كم أنهكتني عند ملء استمارة الرغبات، مع إصرارها، وكأن الفتاة الرقيقة تحولت إلي مقاتل شرس، فهي لا ترغب في عدم خروج ال48 رغبة عن دراسة الفن. من القاهرة للإسكندرية وحتي الأقصر.. جابت بي أرجاء المحروسة شرقاً وغرباً.. وكلما قارب صبري علي النفاد تذكرت درس أبي، وأقول في سريرتي: - لن أحيد عما علمني أبي، ولن أخون نفسي، فليس من العدل أن اختار لابنتي غير ما تريده وتتمناه، ثم أحاسبها علي تعثر تعانيه، أو نجاح لا تستطيع احرازه. ................................. ما حدث واستمعت إليه، وأشرت له في بداية سطوري تلك، يتكرر، ربما في آلاف البيوت، لكن نتائجه السلبية تتجاوز نطاق الأسرة والعائلة، ليتجرعها وطن بأكمله علي أيادي أجيال لم تتعلم كيف تختار؟ أو كيف تصر علي اختيارها مهما كان الثمن؟ لماذا لا ندع آلاف الأزهار تتفتح؟ لحظة تأمل الثلاثاء: في العلاقة بالظل، الناس صنفان: بشر يسبقون ظلهم، وآخرون يتصورون قدرتهم علي الاختباء وراء الظل، حتي لو فقدوه دون ان يدروا! قليلون ممن أعرف يجيدون، بل ربما يحترفون رياضة السباق مع ظلهم، والأجمل أنهم غالباً ما يفوزون. هؤلاء - يقيناً - يملكون خيالاً يستطيعون تحويله إلي حقائق تسعي، ثم أنهم يحلمون كثيراً، لكنهم يملكون - دائماً - أدوات تجعل الأحلام مشاريع تري النور، لا أقصد بالضرورة المفهموم الاقتصادي للمشروع، وإن كان وارداً ومرحباً به، لكن قد يكون المشروع ابداعاً فكرياً، أو ابتكاراً علمياً.. من يسبق ظله يفكر خارج الصندوق، إلا أنه لا يبغبغ بالكلمة، فهو فقط يفعل لأنه خلاق. ................................. كُثر أعرفهم يتوهمون قدرة خارقة علي التعامل - السلبي بالقطع - مع الظل إلي حد أنهم يباهون بقدرتهم علي الاختباء خلف ظل أصابعهم! أحياناً تجمع الصدفة بين هؤلاء وأولئك. أصدقكم القول، علي قدر إعجابي بأداء الصنف الأول أخشي عليهم الوقوع في بئر الغرور، ولا أملك لهم سوي النصح والتحذير، أما من ينتظمون ارتالاً في صفوف الصنف الآخر، فلا أجد بداخلي حتي قدرة تدفعني لرثائهم أو الاشفاق عليهم!. الدواء يلبس «طاقية» الإخفاء! الأربعاء: كانت الصيدلية الرابعة التي اجتاز عتبتها للسؤال عن صنفين من الدواء، هذا الصباح، بعد رحلة شاقة بالأمس أثناء عودتي للمنزل، لم أترك خلالها صيدلية إلا وترجلت باحثاً عن الصنفين نفسيهما، وكأنهما لبن العصفور، أو بيضة الديك!. لم يعد المرء آمناً علي استكمال روشتة الدواء بسهولة، وليست شكوتي وحدي فالأمر أصبح علي مائدة أحاديث أي عائلة، أو مجموعة من الأصدقاء يجمعهم لقاء ليكون اختفاء أصناف عديدة من الدواء علي قائمة همومهم!. الأزمة استحكمت منذ فترة ليست بالقليلة، وتفاءلت كثيراً عقب رفع أسعار أدوية بالمئات، وقلت لنفسي: قضاء أخف من قضاء، صحيح ان المسألة تمثل عبئاً ثقيلاً علي ميزانية أسر بالكاد تستطيع أن توفر احتياجاتها الأساسية، لكن إذا ما تم تخيير أي إنسان بين صحته ودوائه وأي احتياج آخر، فلا شك أنه سيقول: - ليس بعد الصحة شيء. إلا أن ما حدث؛ أن الأسعار زادت، والأدوية واصلت اختفاءها، والصيادلة مازالوا يمارسون دلالهم السمج، ووزارة الصحة لا حس ولا خبر!!. للأسف اضطر للاتصال ببعض الأصدقاء لتدبير صنف أو أكثر من أصناف الأدوية التي ترتدي «طاقية الإخفاء»، لكن هل يملك كل مريض أصدقاء يستطيعون أن يعينوه علي قضاء حاجته من الدواء؟! عيوبك.. مزايا! الخميس: تكرر الموقف بحذافيره خلال الأيام القليلة الماضية مرات عدة. يبدأ المشهد بسؤال من زميل أو صديق أو أحد المعارف: - في رأيك، ما أخطر عيوبي؟ أتطلع في دهشة، ثم استفسر من السائل: ما مناسبة السؤال؟ - بدون مناسبة، عموماً سوف أعفيك من الحرج، وأرد بنفسي علي سؤالي يا سيدي أخطر عيوبي أنني طموح! تعقد الدهشة لساني، ولا أملك سوي أن أهز رأسي بطريقة تحتمل أكثر من تفسير! وكأن السؤال تحول إلي ڤيروس وبائي انتشر دون سابق إنذار! - ما أخطر عيوبي؟ سؤال يطاردني هذه الأيام، وبنفس السيناريو، يتطوع من يسأل ليجيب: أنا صريح جداً.. أنا شديد التواضع.. أنا أحب الحق مهما كانت التضحيات.. أنا.. وأنا.. وأنا... و... يبدو أننا في زمن الأناويين الذين لا يرون إلا أنفسهم، ولايرصدون فيها إلا المزايا والإيجابيات، ولا يعرفون للنقد الذاتي الحقيقي أي سبيل. الطموح مثلاً، لم يتوقف للحظة ليسأل نفسه: هل طموحه مشروع أم أنه يسلك أي طريق، وبأي ثمن ليحقق هذا الطموح، ثم يلوم من يرصد خطاياه. الصريح - كمثال آخر - ألا يري أن كلماته تكون أقرب إلي الرصاص القاتل الذي يصيب ضحايا بلا ذنب إلا أنهم صادفوه في طريقهم. وقد يري رابع أو خامس أن الكرم عيبه الأساسي، بينما هو سفيه يحتاج للحجر عليه، لأنه ينفق فيما يجب الاقتصاد فيه، ولا يجد بين يديه ما يوجهه لفعل الخير، لأن سفهه يضعه أحياناً علي شفا حفرة من افلاس مؤقت!. الذين يثمنون عيوبهم مزاياً، أو العكس، صنف من البشر يحتاجون إلي التخلي عن نظرة تتسم بالأحادية، وحكمة غائبة، وخبرة ضحلة، وويل لمن يقع في مسارهم، فاحذروهم. في الطريق إلي العباسية الأحد: علي غير المألوف، كوبري أكتوبر من مطلع معروف مكتظ، لا بأس من اختراق وسط البلد، واليوم راحة اسبوعية، حتي هذا البديل صعب، فالانحراف يميناً للسير في شارع عبدالخالق ثروت ثم المفاضلة بين نفق الأزهر أو الكوبري خيار يجب استبعاده، استكمال المسير في شارع رمسيس المتاح الوحيد للعودة.. أمرنا لله.. واصلنا السير ببطء احياناً، وبسرعة متوسطة أحياناً اخري و... وقبل أن نصل إلي العباسية توقفت الحركة تماماً، ثم بدأنا نتحرك بأقرب ما نكون إلي سرعة السلحفاة! ماذا يحدث؟ هل هناك صدام لا قدر الله؟ اقتربنا من منطقة الذروة، لا شيء سوي «كبسة» من شرطة المرافق آخر النهار! سيارة الحملة عامرة ببعض الاقفاص، وعربة يد صغيرة، وعدد من السلال فارغة، أو علق بها بقايا فاكهة أو خضر،..، لكن الكوميديا السوداء في المشهد تمثلت في عربة كارو صغيرة يجرها حصان هزيل، يحاول صاحبها الفرار مستغلا حالة الفوضي العارمة، وإذا بفرد هُمام رغم انه نحيل، وعلامات الانيميا الحادة تمتص نضرة وجهه الشاب، هذا الهُمام لحق بالكارو، ولانه يعاني من هزال واضح لا يستطيع ايقاف العربة ليعود به لقائد الحملة، فإذا به يخطف الميزان، وينظر نظرة المنتصر لشاب لا يقل عنه ضعفا وهو يجر الكارو مسرعاً، فيقول له بصوت عال مسموع رغم الضوضاء: - ابقي وريني هتبيع ازاي؟ لازم تيجي لنا غصب عن عينك؟! ................................. تجاوزت السيارة التي استقلها المشهد كله، ولكن ما رأيته يقفز أمام عيني، من ذاكرة لم يفارقها تفاصيل ما حدث. بالتأكيد، لا أستطيع أن ألوام القائمين علي الحملة، إلا أن السؤال الذي يجب أن يلح علينا جميعاً: ماذا يفعل هؤلاء الارزقية؟ وما البدائل المتاحة امامهم؟ هل وجدوا سبيلا لعرض بضاعتهم ورفضوه؟ بالطبع، لا أحد يسعده احتلال الارصفة، أو الاعتداء علي الطريق العام، غير أن علاج الداء لا يكون بما هو أسوأ منه. ولعل الاكثر سوءاً، اجتراء اصحاب كافيهات ومحلات كبري، ومطاعم فخمة علي حرمة الطرق في أرقي الاحياء، كما في المناطق الشعبية، لكنهم خارج شاشات رادارات شرطة المرافق والمحليات، علي طريقة إذا سرق فيهم الشريف، وإذا سرق الضعيف..... عجبي! ومضات إذا اختفي الخط الفاصل بين الضحك والبكاء، من الأفضل ان تتحسس رأسك؟ من يعتمد المغامرة أسلوبا لحياته، قد ينتهي مقامرا آخر مشواره! الاستمرار في مناقشة بلا طائل، مبارزة عبثية بلا سيف! قد يستبدل البعض هواية حل الكلمات المتقاطعة، برواية الحكايات المستقطعة!