لكن ظل السواد الأعظم شرفاء مهما عانوا، كانوا كالقابضين علي الجمر في أزمان صعبة، كل شيء - تقريباً- فيها يباع ويشتري! السبت : أنا من ضيع في الأوهام عمره نسي التاريخ أم انسي ذكره غير يوم لم يعد يذكر غيره يوم أن قابلته أول مرة ........................... كان صوت عبدالوهاب ينساب برائعة علي محمود طه «الجندول».. كوبليه وراء كوبليه، استمع إلي الكلمات واللحن مستمتعا بالعذوبة، مستغرقا مع موسيقار الاجيال المسحور بعروس البحر، حلم خياله، وما أن وصل إلي محطة الأوهام استفقت، ومع اعادته لذات الكوبليه وجدتني انصت بأذن كأن لم يتطرق إليها «الجندول» من قبل. يقولون «كل يغني علي ليلاه»، وهنا فإن «ليلاي» هي الصحافة التي منحتها عمري دون تفكير أو تعقل، فاستنزفته يوما وراء الآخر، وعاما تلو عام، وفجأة ودون سابق انذار استفيق علي كابوس بدلا من الاستغراق في الاحلام أو حتي الأوهام اللذيذة، من قبيل انني بالقلم سوف اغير العالم، أو أن صدي كتاباتي سيعيد صياغة وجدان قرائي، أو أن افكاري يمكن أن تساهم في رسم بعض السياسات والبرامج من أجل حياة أفضل ومستقبل أرحب، أو... أو... وفي عز الكلام سكت الكلام.. وأتاريني ماسك الهوا بإيديّ، كما كان يردد عبدالحليم المطرب الأقرب لقلوب جيلي! هل فعلا أضعت ومعي المئات، وربما الآلاف في الأوهام أعمارنا؟ القراءة اللحظية تشد باتجاه التشاؤم، لكن بقليل من التروي سيتداعي أمام البصر شريط طويل من الأزمات، وأيام بلا حصر لمعاناة كان اليوم خلالها كأنه دهر، وكلها مرت، وعاد زمن الاحلام الجميلة، والأوهام التي يتحول بعضها إلي حلم، ثم واقع وكان الأمر أقرب لدروب الخيال. نعم اللحظة قاسية، إلا أن دوام الحال من المحال.. هل امنح نفسي صبراً من أجل سكينة اتطلع نحوها ، كالجائع الذي يخال الرغيف بدرا؟ ربما.. هل طال المونولوج الذي تتردد اصداؤه داخلي، وقد يكون ذلك حال كثيرين غيري، لاسيما أبناء جيلي ممن قارب مشوارهم المهني النهاية؟! ........................... شرفاء بغير حصر أفنوا أعمارهم راضين بالحلال القليل، دون شكوي أو تذمر، عاشوا حلما أو وهماً تحت ظلال فكرة ملكت عليهم عقولهم وأملت ما سطرته اقلامهم: انهم القلب النابض لضمير أمتهم. هكذا فكر معظمنا واقتسم الفكرة مع شرفاء حقيقيين كانوا رواداً منذ أصبحت الصحافة رسالة ومهنة وعِلماً، دون أن يفكر من عشقوها في حسابات المكسب والخسارة، عبر اجيال تناوبت حمل مشاعل الحقيقة. نعم اندس بين الصفوف مرتزقة، احترفوا تأجير أقلامهم، بل وضمائرهم، وباتت صحفهم أقرب للشقق المفروشة، لكن ظل السواد الأعظم شرفاء مهما عانوا، كانوا كالقابضين علي الجمر في أزمان صعبة، كل شيء - تقريبا- فيها يباع ويشتري! ........................... «عاشت وحدة كل الصحفيين» في أزمات كثيرة، كانت الكثرة الكاثرة تهتف من صميم القلوب بوحدة أبناء المهنة، وفجأة اندرج الشعار التاريخي تحت لافتة الأوهام! مرة أخري يهدر المونولوج داخلي مردداً: أنا من ضيع في الأوهام عمره! ليهدأ المرجل الذي يغلي بصدري، هكذا أتمني.. لكن هل تستند الأمنية إلي ما يدعمها، وقوفا ونهوضا وسعيا نحو افق رحيب؟ نعم.. وقديما قالوا: ياما دقت علي الراس طبول.. واظن استدعاء المثل لا يعني تبني وهم إضافي، لكنها حكمة التاريخ بعيدا عن مرارة اللحظة التي ستزول وتنقشع غمامتها. وسأعود لاصغي مستمتعا بمفتتح «الجندول»، وعبدالوهاب يدندن: أين من عيني هاتيك المجالي.. يا عروس البحر يا حلم الخيال وسأمر مبتسما عندما يصل إلي منتصف القصيدة ناعيا ضياع عمره في الأوهام! أمة إقرأ.. تخاصم الثقافة! الأحد : عجيب أمر العرب، يباهون بأنهم «أمة اقرأ»، لكنهم يحجزون ذيل القائمة في التقارير التي ترصد حال القراءة، ونشر الكتاب! أما عن المحتوي العربي علي الانترنت فحدث ولا حرج، المستوي كما وكيفا «يكسف الفاجر»! أما ما يحرق الدماء حتي في عروق الأموات، فهو ظاهرة اغلاق المجلات الثقافية، أو التمهيد لهذا الاجراء، كثير من الأصوات خرجت محذرة في برامج تليفزيونية، ومواقع علي «السوشيال ميديا» تنبه إلي خطورة الأزمة، واقلام تدبج مقالات وتقارير عن نُذر الخطر التي تهدد استمرار ما تبقي صامدا من المجلات الثقافية حتي في بلاد البترودولار! كنت مجرد متابع للحال المايل حتي ابلغني زميل بنبأ عودة صديق مشترك من احدي الدول الشقيقة، وحسبت المسألة اجازة سنوية، نلتقي خلالها معا، لكنه قذف في وجهي بمفاجأة من العيار الثقيل: انه عاد نهائيا لأن المجلة التي يعمل بها علي وشك الاغلاق، والمشكلة انه كان قد قدم استقالته، لأنه تصور أن الأوضاع مستقرة هناك، وستظل هكذا إلي أن يأذن الله بأمر. ألجمتني الكلمات الأقرب إلي رصاصات اطلقها صاحبها من مدفع سريع الطلقات، ثم تمتمت: ولماذا لم يختر وقتاً آخر؟ لقد عاد في وقت غير مناسب تماماً. إنها الأقدار يا عزيزي.. لعلنا نساعده في إعادة ترتيب أحواله، رغم صعوبة الظروف. ........................... تواصلت هاتفيا مع العائد علي غير موعد، وكأنه كان ينتظر مكالمتي، وما أن وصله صوتي مرحبا، حتي تجاوز العبارات التقليدية في مثل هذه المواقف، واطلق العنان للسانه: من كان يتصور أن يحدث هذا.. تصور مجلتي سوف تغلق أبوابها خلال أيام، وقبلها شهدت أكثر من مجلة خليجية ذات المصير، يعني منها ما قضي نحبه ومنها من ينتظر، أليس مدهشا أن تكون الحجة صعوبات في التمويل، لكن لا أحد يتحدث عن الدعم بلا حدود لبعض التنظيمات التي تعيث ارهابا وفسادا في بلاد شقيقة.. هل تسمعني؟ نعم.. أكمل.. فضفض.. هات كل ما عندك. لا تصدق أن المسألة فلوس فقط، قد يكون ذلك الجزء الهين من القضية، لكننا في الحقيقة أمة تخاصم الثقافة، لأنها تساهم في بناء الوعي، وآه من تبعات التعامل مع الانسان الواعي.. أين أنت؟ اقسم انني مازلت معك. علي فكرة لا تصدق أيضا حكاية الفشل في منافسة المواقع الالكترونية، فذلك الضلال والكذب البواح بعينه، فكما تعلم «كل فولة ولها كيال» وجمهور هذه غير تلك، انه العداء للثقافة والمثقفين، ثم لا يستحيون من الكلام عن القوة الناعمة العربية، يبدو انني اطلت عليك، خلاصة القول عليه العوض ومنه العوض. ولم أملك إلا أن اردد جملته الأخيرة، ثم أغلق الخط! مذيع آخر الزمان الإثنين : مذيع مستفز.. لن أتحدث عن المهنة، واصول وقواعد يتم انتهاكها.. أيضا لن اسدي النصائح، فالزمن لا يحتمل، والاذن التي كانت تصغي -وليس مهما أن تقدم الشكر- أصبحت شيئا من الماضي.. كان المذكور اعلاه يردد بعد كل 7 أو 8 كلمات لضيفه علي الهاتف وكأنه يضربه بسوط: نعم.. نعم.. كان الضيق باديا في نبرته التي تراوح بين الاستهجان والاستعجال، لأن الضيف فاجأه بالتغريد خارج السرب! دفعني الاداء المستفز للضغط علي «الريموت» وتغيير القناة، لكن ثمة مفاجأة غير سارة كانت بانتظاري، نسخة منقحة من نفس الطراز لمذيعة تطلب من الضيف الاختصار ل «ضيق وقت البرنامج».. هل ينتمي ما رأيته خلال دقائق معدودات لأي فهم لدور المذيع؟ هل هي صدفة أم أن الأمر تحول إلي اسلوب اعلامي معتمد؟ حاولت أن اعالج الأمر بقليل من الصبر، فإذا بالمذيعة ترحب باستطرادات الضيف التالي، بل وتستحثه علي مواصلة الكلام! ضغطة علي «الريموت» وعودة للمذيع الأول، فإذا بذات السيناريو يتكرر وكأنه مع زميلته يتعاملان بتعليمات واحدة رغم اختلاف القنوات! يبدو أن احدث الموضات في الإعلام هي «المذيع/ المقاطع»، بعد «المذيع/ الزعيم»، و«المذيع/ الناشط» و«المذيع/ الخبير»، وشعارهم جميعا: ليذهب الضيوف إلي الجحيم، ومن لا يعجبه الحال من المشاهدين ليس أمامه إلا الابتعاد عن الشاشة والخلود للنوم، أو الاستسلام للغيظ! .. ويحسبه الظمآن ماء! الثلاثاء : السراب ليس مجرد ظاهرة طبيعية فحسب، لكنها في ظني استعداد نفسي يتملك الضحية الذي يكاد الظمأ أن يهلكه! من ثم، فالسراب لا يحدث لمسافر الصحراء وحده، أو التائه في دروبها فقط، فالضحايا كُثر، خاصة إذا كانوا في عِداد المتعطشين لأي بارقة أمل، أو بانتظار أن يلوح في الأفق ما يبث في النفس بعض الطمأنينة. نصف معلومة، خبر ناقص، رقم له أكثر من قراءة و... و... وبأمانة فإنني اضبط نفسي - أحياناً- ضمن هؤلاء العطاشي الذين يحسبون السراب ماء! عفواً، طالت المقدمة، لكنها سوف تختصر المسافات، وتلك فضيلتها. خذ هذه النسبة كمثال: 0٫1٪ تقريباً انخفاضا في مؤشر تكاثر البشر في المحروسة، ولأن عقل ضحية السراب مسيطرة، ارتفعت دقات الطبول، وانطلقت الحناجر مبشرة وعلت الفرحة وجوه من نسبوا لأنفسهم هذا الانجاز «الجبار»! لكن مهلا أيها السادة، مازال عداد صلاح سالم يتكتك، ومؤشره يلهث، فالحكاية لا تتجاوز 28 ألف مولود لم يروا النور، ورقم واحد نضعه إلي جانب التراجع كفيل بالدعوة للهدوء والتأمل، فعدد وفيات الأطفال سجل زيادة قدرها 41 ألف متوفي، ثم هل يزعم أحد أن حملاته أو برامجه، أو تحركاته هي السبب المباشر لهذا التراجع المتواضع؟! سألت بعض من وهبهم الله طفلين وثلاثة وكانوا ينوون انجاب المزيد عما اثناهم عن عزمهم، فلم يكن بين ردودهم اجابة واحدة تفيد اقناعهم أو قناعتهم، وإنما دارت كلها حول التأجيل - مجرد تأجيل- حتي تتحسن الأحوال، ليس إلا، يعني المسألة لا ترتبط بالوعي مثلا، ولكن بالضرورات، فهل - بالمقابل- يعي القائمون علي خطط تنظيم الأسرة مغزي هذا ال 0٫1٪ أم يصرون علي الانسياق وراء السراب؟! خدها الغراب وطار الأربعاء : طبيب، ومهندس، صديقان قديمان اتصل بي الأول بعد سنوات غابت خلالها اخباره، وبعد السلامات والتحيات سألني: - هل تتذكر فلان؟ وأجبت بسؤال استنكاري: - وهل أنسي أيامنا الحلوة معا؟ وعاد ليسألني عن ظروفي ومشغولياتي، وما إذا كان لي أن التقي معهما قريباً، وبالطبع رحبت بسعادة غامرة. ........................... التقينا ثلاثتنا، وبصراحة تنازعتني مشاعر يجذبني كل منها في اتجاه، ما الذي دعاهما للتفكير في لقائي؟ هل هي مجرد الوحشة لأيام بعيدة جمعتنا خلالها صداقة حقيقية، واخوة صادقة؟ و... و... شعرت أن نظراتهما المصوبة نحو رأسي، لها القدرة علي قراءة ما يدور في عقلي، وبعد صمت لم يطل، بدأ صديقي المهندس الكلام: بصراحة فكرنا كثيرا إلي من نلجأ ليسمعنا، فرغم ان مقدمات المشكلة عندي تختلف قليلا، إلا اننا - وأومأ برأسه ناحية الصديق الاخر- وصلنا إلي نفس النتيجة. فضلت الصمت لامنحه الفرصة في الاسترسال فمضي يقول: - سافرت عدة أيام، حرصنا قبلها علي اخفاء ما نحتفظ به في المنزل من أموال سائلة ومشغولات ذهبية تخص زوجتي وابنتي قدر ما استطعنا، وبكل ما اوتينا من سبل التمويه، لكن باختصار عدنا لنجد «تحويشة العمر» ذهبت خدها الغراب وطار، واتخذنا كل الاجراءات المعتادة في مثل هذه الاحوال، لكن طال الانتظار، ولم تصل الشرطة للجاني، ولا اكتمك انني شعرت بالحسرة والتعاسة، إلا ان الندم لن يعيد ما سُرق. وجاء دور الثاني في الحديث، ولم ينتظر دعوة، فانطلق يحكي: - باختصار، وكما تعلم فقد سافرت إلي دولة شقيقة، وعملت هناك نحو عشرة أعوام، وعندما عدت، سألت أحد أبناء عمومتي عن أفضل وسيلة لحفظ وتنمية مدخراتي، فقال لي عليك بالحاج فلان، فهو رجل أمين وشاطر، وسوف يمنحك ثلاثة أضعاف ما تقدمه البنوك، ولم أكذب خبراً، وذات صباح استيقظت لأجد صورته في صفحة الحوادث، باعتباره النسخة الأحدث ممن يحملون وصمة «المستريح»، والباقي لك ان تستنتجه. ........................... - ماذا عساي أن أقول؟ كان صوتي هامساً، وكأني أحدث نفسي، لكنهما كانا يرهفان السمع، كالغريق الذي يتعلق بقشة؟ وفي ذات اللحظة، وكأنهما عضوان في كورس: - ما سوف تقوله اعتبره أمراً مطاعاً. ما حدث قد حدث، والكلام لم يعد مفيدا، والبكاء علي اللبن المسكوب تماما، وكما يقول أولاد البلد «العايط في الفايت قلة عقل»، طبعا هناك العبرة والدرس، علي الأقل فقد يكون في الأمر ما يفيد الآخر، القريب أو البعيد، وخلاصة القول ان ما تعلمناه في الصغر نسيناه، أين قيمة الادخار؟ ولماذا الاكتناز دون التفكير في الاستثمار الآمن؟ لن أقول ان البلد يحتاج لكليهما، الادخار والاستثمار، ولكن بقليل من التدبر لابد ان يتجه أمثالنا نحو التصرف السليم له ولمجتمعه و... و... كانا يستمعان لي بعدم اقتناع تفضحه ملامحهما، ربما كان كل منهما بحاجة فقط إلي مجرد الفضفضة دون الاستماع إلي ما يشبه الوعظ، أو حتي النصيحة ناهيك عن التأنيب! ومضات : إذا سقطت الهيبة، لا ينفع المرء جاه ولا مال ولاسلطان. الانفلات اخلاقي أولاً ،ثم تأتي توابعه في الأمن والسياسة وأي شيء آخر. هناك من يسعي للفضيحة بكل همة، لأنها في نظره اسهل طريق للشهرة! من يصر علي أن صناعة التاريخ مهمة فرد، ليس أمامه إلا الالتحاق بآخر القطيع. الخاطرة نتاج لحظة إلهام، لكن الاجتهاد حصيلة مشوار لاهث خلف اغوار الحقيقة. أكثر من الهم علي القلب، الذي لا يجيد عند طرح سيناريوهاته، سوي البراعة في رسم المشاهد الكابوسية! العفوية عندما تنطلق من الفطرة السليمة ليس من العدل وصم صاحبها بالسذاجة.