«واشنطن بوست» ذكرت في مقال عن رحيل أ.«هيكل» إن د.«الفقي» قد قال عنه في كلمة التأبين: لقد غاب ضمير «مصر» وابتعدت ذاكرتها القومية»؛ استبد لغز الموت ب»المصري القديم»، وظل ذلك اللغز يعانق أفكاره ويشكل فلسفته فكانت الحضارة الفرعونية هي في النهاية حضارة «مقابر» بدءًا من «الأهرامات» مرورًا ب»الموميات» وصولًا إلي الحزن المصري عند انتقال شخص عزيز من «دار الفناء» إلي «دار البقاء»، ولقد عشت في الفترة الأخيرة مناسبات حزينة متتالية فيها جنازات وعزاءات وأحزان، لقد رحل «إبراهيم بدران» ورحل «بطرس غالي» ورحل «محمد حسنين هيكل» ورحل قبلهم وبعدهم أسماء لامعة من أمثال «جمال الغيطاني» و»علاء الديب» وغيرهم، وكلما كنت مودعًا لأحدهم جري أمام ناظري شريط الذكريات، فلقد تأثرت كثيرًا برحيلهم جميعًا ولكن لأنني كنت قريبًا من «بطرس بطرس غالي» علي امتداد الخمسين عامًا الماضية أو ما يزيد لذلك سيطرت علي ذكريات لا تنتهي، فعندما التحقنا بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» كان هو اسمًا لامعًا في «التنظيم الدولي» و»القانون الدولي»، واستطاع أن يتعايش مع «العصر الناصري» بحنكة وبراعة محتفظًا ب»شعرة معاوية» مع ذلك الحكم الذي لم يكن متوافقًا - بطبيعة تكوينه العائلي وثقافته الغربية - مع شخصيته وطريقة تفكيره، ولكننا كنا نراه ذلك الأستاذ الجاد والأنيق الذي يحمل «حقيبة كبيرة» مليئة بالكتب والدراسات وهو يمرق سريعًا بين طرقات الكلية في ملحق «حقوق القاهرة» حيث كان المقر القديم لكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية»، ولقد كان مفتاح شخصيته دائمًا هو استغراقه الشديد في الموضوعية وجديته الزائدة في العمل رغم روح الدعابة التي لم تفارقه، ولم يفرق الرجل أبدًا طوال حياته بين مصري «مسلم» وآخر «مسيحي» فلقد كانت الأديان بالنسبة له دعوات روحية تربط الإنسان بخالقه، وأتذكر أنه حكي لي ذات مرة أنه كان لديه «خولي» «مسلم» وآخر «مسيحي» في أرضه ب»الفيوم» وتصور الأخير أنه بحكم الاشتراك في الديانة يمكن أن يكون ذا حظوة أكبر لدي د.»بطرس» ولكنه اكتشف أن الأمر لا يعنيه إطلاقًا، وقد شهدت شخصيًا ونحن طلاب له في الجامعة أنه لم يفرق أبدًا بيننا لأي سبب وعندما اخترت دراستي في مادة «قاعة البحث» عن «تاريخ التنظيم الدولي الإسلامي» مستمدًا من كتاب «عبد الرحمن الكواكبي» «أم القري» وجدت ترحيبًا زائدًا من د.»بطرس غالي» ورعاية خاصة للبحث والباحث، وهو الذي أرسل خطاب تزكية لي عند التحاقي لدراسة الدكتواره ب»جامعة لندن»، وعندما أصبحت دبلوماسيًا شابًا تحت إمرته في وزارة الخارجية لم تختلف علاقتي به أنا وزملائي عن علاقتنا بأستاذنا د.»بطرس» في الجامعة، وظلت علاقتنا به مشوبة بمسحة أكاديمية لم تغب بيننا وبينه أبدًا فهو رجل منظم التفكير لديه قدرة علي جدولة الذهن وترتيب الآراء وتنسيق المواقف وتقليب الأمر الواحد من كافة أوجهه امتدادًا لموضوعيته الشديدة وحياده الفكري الذي لم يفقده أبدًا، وعندما شاركت معه في المرحلة الأولي من إصدار «الكتب البيضاء» لتجميع وثائق الخارجية تصورت أنا وزملائي أن العمل في مكتب الوزير يدفع بصاحبه إلي «العاصمة الأمريكية» أو البعثة الدائمة ل»الأممالمتحدة» أو إحدي السفارات الكبري في «أوروبا»، ولكننا فوجئنا زميلي د.»محمود مرتضي» وأنا بأن د.»بطرس غالي» وزيرنا الذي نعمل معه صباح مساء قد اختار لزميلي «بكين» «عاصمة الصين» واختار لي «نيودلهي» «عاصمة الهند»، وذهبت إليه معاتبًا ومعي «كراسة» النصائح التي تقدمها السفارة «الأمريكية» للذاهبين إلي العمل في العواصم المختلفة وقلت له: إن «الملاريا» متوطنة في «الهند»، و»الكوليرا» لازالت موجودة و»الدوسنتاريا» شائعة ولابد من «غلي المياه» قبل شربها، كما أن الحياة صعبة والطقس لا يخلو من قسوة في شهور «الصيف» فضلًا عن انقطاع الكهرباء ساعات طويلة أحيانًا في ظل جو شديد الصعوبة، فابتسم وقال لي: هل أنت يا «مصطفي» مواطن سويدي! اذهب إلي «السفارة الأمريكية» واطلب «الكراسة» التي يحصل عليها الدبلوماسي الأمريكي القادم إلي «مصر» وسوف تري، وبالفعل وجدتها تكاد تكون متطابقة مع الورقة الهندية في ذلك الوقت من عام 1979، وعندما أصدرت كتابًا مشتركًا مع المستشار الكبير «طارق البشري» والمستشار الراحل «وليم سليمان قلادة» بعنوان «الشعب الواحد والوطن الواحد» وكان ذلك قبيل اغتيال الرئيس الراحل «السادات» عام 1981 وفي ظل توتر طائفي ملحوظ في ذلك الوقت، وقد رأينا أن يكتب لنا د.»بطرس غالي» مقدمة ذلك الكتاب، ولقد فعل بموضوعية وتفتح وتجرد كانت هي السمات الطبيعية لذلك الراحل العظيم، وعندما جاء إلي «الهند» في أول زيارة له - بعد وصولي إليها - قدمت إليه هدية رمزية هي عبارة عن «ميزان صغير» من «النحاس الهندي» رمزًا للعدالة، فضحك أستاذي كثيرًا وقال: أتريد أن تذكرني بالعدالة المفقودة لأنني أرسلتك إلي «الهند»، سوف تكتشف فيما بعد أنني قدمت لك أكبر خدمة في حياتك الدبلوماسية لأن دراستك للدكتوراه في «لندن» كانت حول موضوع الأقليات وأنت هنا في «الهند» تشهد تطبيقًا عمليًا لذلك، وظل يذكرني بقصة «ميزان النحاس» حتي قبل رحيله بشهور قليلة، كما قال لي يومها: أريدك أن تعلم أن النهج الذي كانت تمضي عليه وزارة الخارجية في توزيع أفضل أبنائها علي عواصم العالم بمعايير سياحية هو خطأ فادح، وأضاف أن العمل في «الهند» أهم كثيرًا من معظم العواصم الأوروبية، وأشهد الله أنني تعلمت في «الهند» ما لم أتعلمه لا في «مصر» ولا في «بريطانيا» أيضًا فلقد كانت مركزًا دبلوماسيًا مهمًا أتاح لي فرصة الاحتكاك بثقافات متعددة وإلقاء محاضرات منتظمة في جامعة «نهرو» فضلًا عن التجربة الإنسانية العريضة في ذلك البلد الكبير، ولازلت أتذكر أيضًا قبل ذلك أنني عدت من «لندن» أحمل الدكتوراه وأصر الأستاذ الدكتور «عمرو محيي الدين» بدعم قوي من عميد «كلية الاقتصاد» الراحل د.»محمود خيري عيسي» علي تدبير درجة مدرس لي بقسم «العلوم السياسية» عام 1978، وكدت أقبل ذلك العرض وعندما استشرت د.»بطرس غالي» قال لي: أبق في الخارجية فقد أصبحت بدرجة سكرتير أول، كما أن العمل الدبلوماسي يسمح لك بالنشاط الأكاديمي إلي جانبه - كتابة وتدريسًا - بينما العكس غير ممكن، ولازلت أتذكر ذلك الاتصال الهاتفي الذي استقبلته من «نيويورك» وكان المتحدث هو د. «نبيل العربي» مندوب «مصر» الدائم لدي «الأممالمتحدة» يبلغني بعد منتصف ليل «القاهرة» أن د.»بطرس غالي» قد أصبح أمينًا عامًا لتلك المنظمة الدولية الأولي ويطلب مني إبلاغ الرئيس بذلك وقد فعلت مع الساعات الأولي للصباح، ولابد أن أسجل هنا أن «بطرس غالي» الذي خاض معركة ذلك المنصب الدولي الرفيع - وهو علي مشارف السبعين من العمر - لم يتوقف عن إدارة معركته الانتخابية في جسارة وقوة متنقلًا بين العواصم الكبري في قارات العالم المختلفة، وعندما لعبت الكيمياء السلبية دورها في توتير العلاقة بينه وبين «مادلين أولبرايت» وزيرة الخارجية الأمريكية نتيجة رفضه الانصياع للضغوط الأمريكية فضلًا عن إصراره علي نشر تقرير «قانا» الذي أعدته اللجنة التي حققت في الجريمة الإسرائيلية للشهداء الفلسطينيين في ذلك المخيم حيث كان التقرير يفضح بشكل حاسم جرائم «إسرائيل» في ذلك الوقت، ولقد حاولت «واشنطن» مساومته بالمد له سنة إضافية علي ألا يترشح بعد ذلك ولكنه أبي في كبرياء وشمم لأنه لم يكن طالب وظيفة ولكنه كان صاحب رسالة، ولن أنسي أبدًا مرافقته للرئيس الأسبق «مبارك» في زيارة إلي «ليبيا» ولقاء «القذافي» كجزء من حملته الانتخابية للحصول علي المنصب الدولي الرفيع، وعندما داعب الرئيس الأسبق د.»بطرس غالي» أمام «القذافي» قائلًا له: إن زوجتك مدام «ليا» تمنع عنك «المكرونة» و»البطاطس» حتي تظل رشيقًا ولا يزداد وزنك، فإذا بنا ونحن نركب الطائرة الرئاسية نجد أن «القذافي» قد أرسل معنا «جوالًا» من «البطاطس» وآخر من «المكرونة» باسم د.»بطرس غالي»، ولقد أدهشني يومها تلك الحفاوة المبهرة التي استقبل بها «القذافي» د.«بطرس غالي» رغم الاختلاف الفكري والتباعد الثقافي بين الرجلين، وفي النهاية فإنني أتذكر أيضًا أن عائلة غالي رأت أن تقوم بإحياء الذكري المئوية لاغتيال «بطرس باشا غالي الجد»، وطلب مني أستاذي د.«بطرس غالي» أن أكون المتحدث الوحيد في الاحتفال الأنيق ب«الكنيسة البطرسية» حيث يرقد جثمان الجد الكبير، وقد ألقيت كلمة مدعومة بالوثائق والحقائق حول القضايا الشائكة في حياة ذلك الجد الراحل ومنها موضوع مد امتياز «قناة السويس» ثم تصديقه علي أحكام «دنشواي» وحاولت أن أتوخي الموضوعية فيما أقول دون تزيين أو مجاملة، وعند انتهاء كلمتي قام د.»بطرس غالي» من مقعده ليحتضن تلميذه مهنئًا علي الكلمة التي ألقيتها وكان ذلك قبل ثورة يناير 2011 بشهور قليلة.؛ إن الحزن علي الشخصيات الغالية التي نفقدها يجب أن يتحول إلي طاقة إيجابية نتذكر فيها مواقفهم الوطنية وتصرفاتهم الرائعة في كل الأوقات.. رحم الله «بطرس غالي» والذين معه.؛ القرن التاسع عشر هو قرن التحولات الكبري في التاريخ الإنساني، وقرن الثورات العظمي في مسيرة البشرية، وقرن الأفكار التي غيرت وجه الحياة ودخلت بنا في مسارات لم تكن مألوفة، إنه قرن الإصلاح السياسي بعد الإصلاح الديني، إنه قرن ميلاد الديمقراطيات والشعور بالقدرة علي الدخول إلي المستقبل في ثقة، وهو أيضًا قرن الاختراعات العلمية والاكتشافات التكنولوجية، إنه قرن الثورة الصناعية الكبري، إنه القرن الذي تبلورت فيه الحركات القومية وظهرت من خلالها الدولة الحديثة، إنه عصر الدساتير والانتخابات وبداية الحصول علي حقوق المرأة وصدور التشريعات المنظمة للعلاقة بين الأفراد والدولة وهذه كلها تقع تحت مظلة تحديث البلاد وتنمية مؤسساتها والجهاز الإداري فيها والجهاز الأمني لها، إننا أمام قرن يلخص الألف عام الأخيرة ويختزلها في مائة عام فقط، إنه قرن «الثورة الفرنسية» وإرهاصات الميلاد «الماركسي» وبزوغ «الدارونية» وميلاد «الفرويدية»، إنه قرن التألق الفكري والعصر الذهبي لميلاد التحولات الكبري في التاريخ الإنساني المعاصر.؛ شريط «طه حسين»؛ أهداني د.»كمال الجنزوري» شريطًا - CD - مسجلًا عليه بعض أمسيات «حديث الأربعاء» ل»عميد الأدب العربي» التي كانت منارة مضيئة تشع من «مصر» ضوءًا يهتدي به الجميع، وإذا استمعت إلي حديث «طه حسين» عن الخليفة الراشد «عمر بن الخطاب» تشعر أنك تحلق في سماوات العلا حتي أن «عميد الأدب العربي» كاد أن يجهش بالبكاء في نهاية محاضرته، إن أسلوب «طه حسين» ونبرة صوته هي قبس من إشعاع عظيم بثه ذلك الرجل الفريد في الوجدان المصري والعربي والإسلامي علي نحو غير مسبوق.؛ ورحل «الترابي»؛ مضي د.»حسن الترابي» إلي رحاب ربه بعد حياة حافلة لأنه كان صاحب شخصية مثيرة للجدل ومبعثًا للخلاف، قضي حياته بين مقاعد السلطة وزنازين السجون وحاول اقتحام المؤسسات الدينية والثقافية بل والسياسية في العالمين «العربي» و«الإسلامي» مدعومًا بأفكاره الدينية ومشاعره الشخصية، ولقد جاء رحيله في وقت مزدحم بالأحداث والمواقف إلا أن الشعب السوداني الشقيق ودعه بما يستحق.؛ ضمير الفكر الوطني أرسل إليّ الأستاذ «أحمد يوسف القعيد» وهو شاب نابه يدرس للدكتوراه في جامعة «ألبرتا» في «كندا» وهو ابن الروائي الشهير «يوسف القعيد» عضو «مجلس النواب» حاليًا، يقول «أحمد» في رسالته إن ال«واشنطن بوست» قد ذكرت في مقال عن رحيل أ.»هيكل» إن د.»الفقي» قد قال عنه في كلمة التأبين: لقد غاب ضمير «مصر» وابتعدت ذاكرتها القومية «Nation.s Authentic Memory»، وتثمن الصحيفة علي ذلك الرأي وتتحمس له وتبرزه لذلك تتجدد أحزاننا ونظل واحدًا من شعوب الأرض التي تستقر لديه ظاهرة الحزن الجماعي عبر العصور.؛