لقد حرص الإسلام كما أراد له رب الناس، علي المثالية الواقعية، المتمثلة في الحرص علي أن يبلغ الإنسان الكمال المقدور له، مع عدم إغفال طبيعة الإنسان وواقعه في الأسبوع الماضي تحدثت عن فضيلة الصدق، ونصيحة الحبيب المصطفي لذلك الأعرابي، بعدم الكذب، وقَبِلَها الإعرابي، وبالتزامه الصدق أقلع عن ارتكاب المعاصي جميعها، خوفاً من المساءلة وخوفاً من الكذب. وهكذا هو الإسلام كما نزل علي رسولِ الهدي المبعوثِ رحمةً للعالمين، دون تفريط أو مغالاة، التزاماً بقدسية المنهج ومصداقية المصدر، فالإسلام مصدره ومنهجه وتعاليمه وأحكامه، وأوامره ونواهيه كلها من عند الله، وحياً مباركاً إلي الحبيب المصطفي عليه وعلي آله الصلاة والسلام. فجاء المنهج من مصدره الرباني، كاملاً خالياً من النقائص، فواضعُ الدينِ ومرتضيه هو رب العالمين العالِمُ بما يصلحُ وما لا يصلح للخلق أجمعين، وهو سبحانه صاحب صفات الكمال ونعوت الجلال، ولا حاجة له من البشر، ولا إليهم، وإنما مراده عزّ وجلّ إصلاحهم وهو بكل خلقٍ عليم: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، وله جلّت اسماؤه وتقدّست صفاتُه كل الهيبة والخضوع، والاحترام والخشوع من قبل عباده المؤمنين، مهما كانت مراكزهم وسلطاتهم الدنيوية، فهم عباد الرحمن صاحبِ الشرعِ، وشارِع الإيمان. وذلك بخلاف القوانين الوضعية والدساتير البشرية، التي تخالفها الناس والنفوس كلما وجدت الفرصة لذلك، وكلما غفا الرقيب البشري، وبَعُدَ الطائل القانوني. فالإسلام نظامٌ شاملٌ لجميع شئون الحياة ولكل سلوك الإنسان. وهذا الشمول لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص، بل هو كاملٌ تام بكل ما تحمله الشمولية من معني: (ما فرّطنا في الكتابِ من شيء)، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء). لقد نظم الإسلام علاقة العبد بربه، وعلاقته بالناس، وعلاقته بحكامه، وعلاقة حكامه به، بل وعلاقة العبد بالكون من حوله، ورتبت له حياته قبل الممات وحتي بعد الوفاة. وللإسلام حكمٌ في كل ما يصدر عن المرء من تصرفات، وكل ما يضعه في رأسه من توجهات، وفي قلبه من معتقدات. كما أن هذا الدين العظيم شمل العقائدَ والعبادات، والأخلاق والمعتقدات. ومن البديهيات: أن الإسلام جاء لعموم البشر، ولكافة الخلق، أفراداً وجماعات، وليس لطائفةٍ معينةٍ ولا لفرقةٍ مخصوصةٍ، ولا لجنسٍ دون جنس : (وما أرسلناك إلا كافةً للناسِ بشيراً ونذيراَ)، وهذا العموم كما يشمل الأجناس كذلك يشمل الأماكن والأزمان، فهو دين الله لكل خلق الله في كل مكان إلي أن تقوم الساعة، ولذلك فقد شرعه الله تعالي صالحاً لهذا العموم يفي بحاجات الناس، ويحقق مصالحهم، ولا يتخلف عن أي مستوي يعيشونه في مجتمعاتهم، وهذا واضح من خلال واقع وطبيعة مبادئها ومناهجها وأحكامها، ومن ثم جاء الإسلام شاملاً بحمد الله كاملاً وليس به بفضل الله ولا فيه مشكلةٌ علي الإطلاق، وإنما المشكلة اليوم تكمن فيمن يحاول أن يفصّل الإسلام علي مقاس رغباته وحاجته دون العالمين، في محاولات مفضوحة للاستفادة الذاتية من الدين. لقد حرص الإسلام كما أراد له رب الناس، علي المثالية الواقعية، المتمثلة في الحرص علي أن يبلغ الإنسان الكمال المقدور له، مع عدم إغفال طبيعة الإنسان وواقعه. والمثالية تأتي بالتزام العبد منهج الله الحكيم في شئون الدنيا والدين، وبقدر هذا الالتزام الصادق الأمين، يكون قربه أو بعده من هذه المثالية، إذا منهج الله تبارك وتعالي هو الكمال والجمال والجلال، ومثاليته لا يمكن أن تكون واقعاً إلا بالنظر إلي طبيعة النفس ومكوناتها. ومن ثم رعي الإسلام الموازنة بين النفس والروح والاعتدال بين احتياجات كل واحدة منهما. فالعبادات غذاء الروح وحياتها، إذ هي حظها من خالقها ومعبودها، ولكن لا ينبغي أن يهلك العبدُ بالعبادات نفسَه، ويعذب بها جسده، ويحمله ما لا يطيق، (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وفي الحديث الشريف (لكني أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس مني). وإذا كان الناس متفاوتين في استعدادهم للوصول إلي الكمال (والكمال لله وحده) فقد راعي هذا الدين العظيم ذلك، فجعل حدّاً أدني يتحمله كلّ أحد، وهو فعل الفرائض والواجبات، وترك المعاصي والمحرمات، وحدّاً أعلي يتنافس فيه المتنافسون، بفتح أبواب النوافل والمستحبات. فالإسلام مدرسة تربوية وأخلاقية يتعلم فيها المسلم أسس الأخلاق ومبادئها القويمة، فهو دينٌ جاء ليعُلي من شأن الأخلاق وهي في مجملها سلوكيات المسلم مع ربه وخالقه، وسلوكياته مع نفسه وجميع الناس في هذا الكون الفسيح. فلا يخرجن علينا اليوم أحدٌ بعد أكثر من أربعة عشر قرناً بحذف أو إضافة مدعياً خدمة هذا الدين، فالخدمة الحقيقية له، أن يتركه صافياً ويتتبعه كما هو، فليس في الكون من هو أعلم بحال العباد من رب العباد. والذي جعل في هذا الدين الخالد والخاتم من الواقعية ما يفي بإيجاد المخارج والرخص، تمكيناً لهذه الشريعة الغرَّاء لتبقي صالحةً لكل زمان ولكل مكان ولكل إنسان.