«.. وأغلق باب مرسمه علي فنه وشغل أيامه إبداعاً وعاد إلي الحياة بألوان لوحات صارخة تطلب الحرية». يدهشك الفنان فاروق حسني بقدرة عجيبة علي التجدد، لم يفقد بريقاً، ولم يفتر فناً، ولم يتقوقع محسوراً ملوماً، راضياً مرضياً بما قدمه لثقافة هذا الوطن، محفوفاً بمحبة خالصة تجلت في توقيع كتابه «فاروق حسني» علي إيقاع موسيقي راقية، كان الحفل أنيقاً أناقة الفنان عندما يتخفف من حمل المسئولية، ويتفرغ لفنه. سر ألق فاروق حسني أنه لا يضمر شراً حتي لمن آذوه إنسانياً، وهم كثر، تكالبوا عليه عقورين، ولا يحمل كراهية لمن كرهوه كراهية التحريم، أكرم بعضهم، ناهيك عن اللئام، لا يقتات ثأرية، ليس في نفيه غصة، ولا يستحلب مرارة، متسامحاً تماماً مع نفسه ومع الآخرين، والنفس أمارة بالسوء. عرفت فاروق حسني في بواكير عملي الصحفي، ومن يومها والرجل في معركة بلا نهاية ضد القبح، الفنان يرنو إلي الجمال، ومنتهي فنه أن يكون الكون جميلاً، ويستمد من الجمال أشعة إبداعه، وينسج من خيوط الشمس جدائل ذهبية، في مخيلته مصر جميلة الجميلات رغم القبح الساكن فيها ليل نهار. فاروق حسني علي ما يبدو من رقة وذوق وأناقة، وهذا مصدر حسد الكثيرين، فاروق جسور، في طرحه الفني، والمجتمعي، والسياسي، كلفه هذا كثيرا، وأهال بعضهم من سخام السياسة علي وجه الفنان، بالأساس فنان، وجاء إلي دنيا السياسة من باب الفن، ولم تلهه السياسة عن سويعات كان يقضيها في مرسمه متفرغاً لفنه. يقينا جنت علي فنه السياسة، رب ضارة نافعة، فاروق لم يخلق للسياسة، خرج منها بجراح عميقة، تأذي كثيراً، ونال منه البعض سياسياً، ولم ينصفه فنياً إلا من اقتربوا من صومعته ليروا إنساناً آخر، الفنان في مرسمه طير طليق بريش ملون. مثل فنه الملغز إلا علي المتخصصين، فاروق إنسانياً لغز يحتاج إلي تفكيك، انتمي لعصر ونظام حكم ثار عليه الشعب، خرج علي العامة ثابتاً، لم يتلون، لم يقل في رؤسائه قولاً كريهاً تقرباً من عصر آت أو تزلفاً لعصر ماض، قال قولته ومضي إلي فنه. ولما نال منه المرجفون وذهبوا به المحكمة طعناً في ذمته المالية، لم يمار، ذهب إلي ساحة القضاء بقدميه يطلب العدل، ولم يهرب من وجه اتهام وكان باب الهروب مشرعاً، لم يخش وقوفاً أمام قاض عادل، ونال من العدل كفايته، واسترد نظافة سمعته من اتهامات عقورة تغتال الناس علي الهوية. منعه الإخوان من السفر عقاباً، وهو من ناهض الاخوان يوم جبن آخرون، فلم يضجر، ولم يتشك، ولم يطرق الأبواب، احتمل احتمال الغارمين، واحتسب، وأغلق باب مرسمه علي فنه، وشغل أيامه إبداعاً، وعاد إلي الحياة بألوان لوحات صارخة تطلب الحرية، صمت وترك فنه يتحدث. مسيرة الفنان في كتابه الأخير « فاروق حسني » ، جديرة بالتوقف الفني، وهذا متروك للنقاد، ولكن صدور الكتاب والحفاوة النخبوية التي كان عليها حفل التوقيع، تؤكد معني واحدا أن فاروق حسني السياسي لم يطغ علي فاروق حسني الفنان، تزول المناصب وتبقي القيمة، تذهب المكاتب ويبقي المرسم، تغيم الألوان السياسية في صخب الاحتراب، وتبقي اللوحة صافية معبرة عن نفس الإنسان. كم من مسئولين أسكنتهم ثورة يناير قبور الصمت، أصبحوا علي ما فعلوا نادمين، ولكن فاروق استثناء، لم يرتض قبراً يدفن فيه علي قيد الحياة، ولم تهن عزيمته، ولا نضبت قريحته تحت وطأة القصف، ولم يسمح للقبح أن يلوث حياته، عاد سيرته الأولي فناناً، يقتات الفن، ويترحم علي أيام كان هناك متسع للجمال قبل أن يطبع القبح بصمته الكريهة علي لوحة الوطن.