نجوب الدنيا طولا وعرضا.. ذاك يزهو بجاهه وماله وتلك تتباهي بجمالها ونسبها.. نتوه في صراعات وهمية بين لاهث وراء كرسي وآخر وراء مال وكأن الأرض التي ستواري تلك الأجساد ترابها ماس وذهب. ولم الحديث عن الرحيل ؟ فكأننا نعيش للأبد. ومن هذا الفقير في نظر أناس تتعبهم برودة التكيف وشقاؤهم يكمن في سفراتهم الكثيرة شمالا وجنوبا هربا من حر صيف يشوي أجسادا أخري لا تجد للشقاء بديلا. وماذا تراه فاعلا هذا الشقي بأمواله ومناصبه أمام الشكائين البكائين؟ وماذا يفعل كل من ظن أنه يبني ملكا لا يقدر عليه أحد وتناسي أن الرحيل قادم لا محالة؟ أتذكر من قصص التراث حكايات بهلول الذي كان يستأنس بالقبور في عهد هارون الرشيد قائلا « جلست عند قوم إذا غبت عنهم لم يفقدوني وإذا حضرت عندهم لا يؤذوني والمتفكر فيهم معتبر والناس إليهم صائرون «. وعندما عنفه هارون الرشيد قائلا له : يا بهلول يا مجنون متي تعقل؟ رد عليه بالمثل ناعتا الخليفة بالمجنون.. وقال له أنا العاقل لأني عرفت أن هذا زائل (وأشار إلي قصر هارون) وأن هذا باقِ (وأشار إلي القبر) فعمرت هذا قبل هذا، وأما أنت فإنك قد عمرت هذا (يقصد قصره) وخربت هذا (يعني القبر).. فتكره أن تنتقل من العمران إلي الخراب مع أنك تعلم أنه مصيرك لا محال. فتأثر هارون بكلماته وسأله إن كان له حاجة يقضيها له. فقال بهلول: ثلاث حاجات إن قضيتها شكرتك.. أن تزيد في عمري.. فقال هارون: «لا أقدر» قال : أن تحميني من ملك الموت.. قال : «لا أقدر «.. قال : أن تدخلني الجنة وتبعدني عن النار.. قال : «لا أقدر».. قال بهلول : فاعلم أنك مملوك ولست ملكا.