عشرات الكتاب وآلاف العمال.. وملايين القراء مدينون لهذين العملاقين.. فاقرأوا الفاتحة لهما.. عرفت مصطفي وعلي أمين عام 1944 وكان عمري تسعة أعوام عرفتهما من خلال جريدة «أخبار اليوم» التي اقتحمت بيتنا بأسلوبها الجديد ونافست الأهرام بجدارة والذي كنت لا أقرأه ولكني وجدت نفسي «أتفرج» علي «أخبار اليوم» وأضحك من نكت رخا وصاروخان وأصبحت عادة مثل الاستماع إلي الراديو وتناول الغداء مع الأسرة وقراءة الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي وأيام طه حسين.. كان لدينا نهم للقراءة وأقول نهم لأننا كنا نتخاطف «أخبار اليوم» وروز اليوسف وكان الأهرام لا ينتقل من فوق «كوميدينو» الوالد حيث لا يقرأه إلا الكبار!! في بدايتها جذبتنا «أخبار اليوم» فقد كانت شديدة الجاذبية بصفحاتها وصورها ورسومها كانت «أخبار اليوم» تهتم بالمرأة والموضة وأخبار درية شفيق وأمينة السعيد وأم كلثوم وليلي مراد وأنور وجدي والصغيرة فيروز.. وغيرهم وكذلك كانت تكتب عن نساء رحلن مثل صفية زغلول وهدي شعراوي وغيرهما وكانت تهتم بأخبار المرأة مثل المدرسات وكذلك الطبيبات والعاملات وتشجع عمل المرأة وتكتب سير العظيمات من نساء مصر والعرب وكذلك من نساء الغرب وقد اهتم الأخوان بتشجيع المرأة علي العمل بالصحافة سواء كمخبرات للبحث عن الأخبار أو في تغطية الخبر بأخذ أراء الناس في كل جديد ودخلت المرأة سواء خبرا أو عملاً من بوابة ملكية هي بوابة «أخبار اليوم» وكان لكتابة مصطفي أمين البسيطة للموقف السياسي أثر كبير في قراءات النساء للسياسة حيث كانت قراءة السياسة حكراً علي الرجال للأساليب الجافة التي تكتب بها ولكن لأن أستاذنا مصطفي أمين رحمه الله وجزاه عنا وعن الصحافة الحديثة كل خير كان يتعمد تغليف الخبر السياسي بكلمات تجعله سهلاً ويغري بالقراءة فبدأنا نقرأ الموقف السياسي لنعرف ما يحدث في هذا المجال الذي كان دائماً يبدو مغلقاً للمرأة والشباب وحكراً علي الكبار الذين يتعاطون السياسة ويقيمون الموقف السياسي ويتكلمون فيه! كذلك كان أستاذنا يحترم المرأة ويشدد أنها نصف المجتمع وأن هذا النصف أحق بالاهتمام لأنها أم كل الرجال!! أما باقي مواد الجريدة فقد حرص الأخوان بحب لمصر وذكاء علي كشف الأمور لكل المصريين فقد بدآ أسلوباً جديداً في طرح الأخبار المهمة كأنهما يقيمان استفتاء للشعب صاحب الحق في كل ما يحدث علي الساحة سواء اقتصادياً أو سياسياً لدرجة أنهما كانا يقدمان استفتاءات بسيطة حول الحدث السياسي لمشاركة الناس في كل ما يجري في بلادهم واستطاع الأخوان أمين بكل ما يقدم في «أخبار اليوم» أن يصنعا من القارئ شريكاً في كل ما يحدث في البلد سواء سياسياً أو اقتصادياً أو فنياً فإذا لحن عبدالوهاب أغنية جديدة أفردت صفحة للأغنية هنا الكلمات ثم حوار مع الشاعر حول ظروف كتابة الأغنية ثم حوار مع الأستاذ عبدالوهاب حول اختياره للكلمات وكيف سيلحنها ثم حوارات مع العازفين حول انتظارهم للحن الجديد. أما حفلات أم كلثوم الشهرية فكان لها رأي عام تخاطبه الجريدة منذ أول الشهر حتي إقامة الحفل سواء مع أم كلثوم من حوار معها حول الأغاني في الوصلات الثلاث أو الثوب الذي سوف ترتديه أو تسريحة الشعر التي ستظهر بها.. وحتي البروش الماس كان له مكان في المقال. كذلك حوار مع الفرقة وهل اللحن وصل إليهم أم مازال سراً وهل هو صعب أم سهل!!.. وتظل المقالات تعطي للناس ما يجعلهم يستمتعون بالحفل وقد عرفوا كل ما فيه. أما الحياة السياسية فقد تعمدت الجريدة بسياسة صاحبيها المنحازة للبسطاء فقد أصبح كل ما يحدث من سياسة خارجية أو داخلية أو تناول مشاكل الأمة تحت قبة البرلمان أصبح كل ذلك بين يدي كل البسطاء مع الجالسين علي المقاهي والذين لم ينالوا من التعليم إلا القراءة وهكذا أصبحت أخبار اليوم هي خبر.. البسطاء اليومي تجد فلاحاً يجلس علي المسطبة وحوله من لا يعرفون القراءة يستمعون إليه ليقرأ لهم ما هو مكتوب علي صفحات «أخبار اليوم». وكان الاتجاه السائد في سياسة الأخوين علي ومصطفي أمين أن يجد سكان الحواري والأزقة وفي شوارع الحسين والسيدة زينب وقري مصر والصعيد أن يجدوا أنفسهم في الجريدة الجديدة وظهرت وظائف المندوبين ومديري المكاتب في عواصمالمحافظات مثل المنصورة ودمنهور وبني سويف والفيوم وبورسعيد وصولاً لأسوان هؤلاء يغذون الجريدة بكل خبر جديد يحدث هناك لهذا وجد سكان مصر أنفسهم علي صفحات «أخبار اليوم» بعد أن كانت جريدة الأهرام الشديدة التحفظ لا يوجد أهل مصر فيها إلا نادراً ويملأون صفحة الوفيات التي اشتهرت بكثرة القراءة حتي يستطيعوا تأدية واجب العزاء ومازالت كذلك حتي الآن وقد درسنا في كلية الصحافة مقولة شهيرة من لم يمت في الأهرام فكأنه لم يمت. أخبار اليوم والناس وأفردت «أخبار اليوم» أبواباً للقراء يعبرون فيها عن أنفسهم وعما يريدونه من الدولة أو ما يتمنونه من تغيير في حياتهم فقد فتحت الجريدة قلبها لأقلام القراء والذين ظهر منهم كتاب بعد ذلك تم اكتشافهم عن طريق كبار الكتاب لأن هؤلاء القراء استطاعوا أن يعبروا عن مطالب الناس وآلامهم فاكتشفت فيهم الجريدة موهبة الكتابة فأصبحوا كتاباً بعد ذلك. وظلت «أخبار اليوم» مسيطرة علي الشارع المصري والذي أصبح لا يخلو منها منزل أو مقهي أو محل تجاري أو حتي صالون حلاقة.. وذلك لأن الأخوين نجحا في أن يتواصلا مع الناس سواء في أخبارهم أو في مشاكلهم أو في توصيلها لأولي الأمر منهم بحيث لم يعد الوزراء ولا حتي رئيس الدولة في برج عاجي بل أصبح من يريد مقابلة وزير لحل مشكلة ما يبعث ل «أخبار اليوم» فتسهل له مهمته عن طريق مندوبيها المتواجدين باستمرار في كل الوزارات والذين نجحت الجريدة في عقد ثقة واتفاق غير مكتوب بين الوزراء وبين العاملين في الجريدة بحيث لا توجد مشكلة لقارئ عن وزير إلا واستجاب وحل المشكلة. لهذا نجحت «أخبار اليوم» في عقد اتفاق شرف بينها وبين الدولة بحيث تتواصل مع الجماهير وأن «أخبار اليوم» هي السفير الدائم لهؤلاء الجماهير. مشاكل الحياة اليومية وأفردت «أخبار اليوم» بفنها الصحفي الذي وضع قواعده الأخوان أمين أفردت أكثر من مكان لتواصل القاريء مع الدولة وخصوصاً الوزارات المعنية بمشاكلهم الملحة مثل مشاكل التموين الملتصقة بقوت الناس وكذلك مشاكل الري التي تواجه الفلاحين وقد استطاعت «أخبار اليوم» في نهاية الأربعينيات أن توصي بحفر أكثر من ترعة في أماكن نائية من الصعيد والدلتا لتسهيل الري للفلاحين وأوصلت صوت الفلاحين للمسئولين وحينما جاء الفلاحون يطلبون من مصطفي وعلي أمين اطلاق اسميهما علي إحدي الترع التي كانا السبب في حفرها رفضا تماماً وقالا ضعوا لها اسم أحد زعماء الثورة العرابية أو ثورة 19 وفعلاً وضعوا علي احداها اسم الزغلولية نسبة إلي سعد زغلول والثانية ترعة عرابي نسبة إلي الزعيم أحمد عرابي. استطاع الأخوان أن يتواصلا مع كل فئات الشعب سواء عن حل المشاكل أو توصيل الأخبار والمعلومات التي تؤهل المواطن لأن يكون مواطناً صالحاً ومطلعاعلي أحوال بلده. مصطفي أمين أستاذا للصحافة في الخسمينيات استعان عميد كلية الآداب الراحل الدكتور عز الدين فريد ورئيس قسم الصحافة الدكتور خليل صابات بالأستاذ مصطفي أمين ليحاضر للطلبة محاضرات في الصحافة العملية وقد تكلم أستاذنا مصطفي أمين عن الصحافة وأنها المهنة الوحيدة التي تبدأ هواية ثم تصبح مهنة وذلك لأن العمل بالصحافة لا تفيده الدراسة فقط ولكن لابد أن يكون واعياً لكل ما حوله ومن حوله وأن يتحول كل ما يراه إلي خبر أي أن حذاء شقيقه الجديد خبر وعملية جراحية لخاله خبر وبالطوا جديد لماما خبر.. ولص يقفز من فوق السطوح إلي البيوت خبر والمهم أن يفكر كيف يكتب الخبر ليصل ويجذب كل الناس. وقد اقترح أستاذنا علي التلاميذ أن يصدر كل منهم جريدة صغيرة (اسمها أخبار بيتنا) وفعلاً قام الطلبة بعمل هذه الجرائد وكانت كلها اكتشاف لمواهب أصحابها والذين أصبحوا كتابا كبارا بعد ذلك في «أخبار اليوم» والأهرام والجمهورية. مرض علي أمين وحينما مرض أستاذنا علي أمين ورقد في المستشفي ذهبنا لزيارته وكان أستاذنا مصطفي أمين يكتب عموده اليومي فكرة بدلاً من شقيقه المريض والغريب أننا جميعاً لم نشعر بهذا التغيير لأن الأسلوب واحد والقضايا التي يتناولها العمود اليومي هي نفس نوع القضايا التي كان يتناولها أستاذنا علي أمين ولم يعرف أحدنا أن الذي يكتبها هو توأمه مصطفي إلا بعد أن عرفنا من عمال المطبعة ولعل القراء لم تصلهم هذه المعلومة حتي الآن. وحينما رحل علي أمين كأنه لم يرحل وكأنه قد تحول إلي روح ودخل إلي جسد توأمه فقد صمم مصطفي أمين علي كتابة فكرة يومياً وأن القارئ ليس له ذنب في أن علي أمين رحل لأن فكرة كانت تحمل الأمل والرجاء يومياً لكل من يقرأها وكانت تفتح أبواباً كثيرة لكل المحبطين والذين يئسوا من حل مشاكلهم لقد كانت كأنها دواء ينعش الناس ويعيد لهم الأمل أو كأنها حقل دائم الخضرة يعيد للنفس الطمأنينة واستمرار الحياة فقرر توأمه مصطفي أمين أن تستمر فكرة وظل مصطفي أمين يكتبها حتي بعد الرحيل لتوأمه.. ظل يكتب العمود تحت نفس العنوان وبنفس روح التفاؤل التي كان يعيش بها علي أمين. وكنا نعتقد أن أستاذنا سوف يموت وهو علي قيد الحياة برحيل توأمه ولكن ظل متمسكاً بالحياة وكأنه رافض لموت أخيه وظل يعمل بنفس الحماس ونفس التفاؤل اللا نهائي الذي كان يملأ قلب علي أمين وكأن روحه دخلت فيه فأصبحا واحدا. مصطفي أمين في السجن وفي قضية ملفقة شديدة التعقيد وفي وقت شديد القسوة سجن مصطفي أمين بتهمة هي أبعد ما تكون عنه وهي خيانة الوطن وإفشاء أسرار توصل إلي هدم الوطن ويعلم الله كم كان الرجل مظلوماً لأنه في مسيرته الطويلة لم يكن يتهم في شرف انتمائه لمصر وإلا لما قام بهذا العمل الصحفي الضخم الشديد الانتماء لأرض الوطن وتم تعذيبه ولعل دراما الحياة في حياة مصطفي أمين تثبت وجودها وهي أن الإنسان في قمة النجاح إما أن يموت وإما أن يطعن من الخلف وكانت الطعنة من الداخل من داخل دائرته الصحفية وممن حوله وكأن القضية كان أساسها تعذيبه ليس إلا وكأن من كادوا له لم يستطيعوا طعنه في نجاحه الصحفي فأرادوا أن يتناولوا جهة أخري لتكون الطعنة أكثر إيلاماً سامحهم الله أو ممكن أنهم كانوا يريدون الانفراد بالساحة ولكن يشاء القدر أن يخرج مصطفي أمين من السجن وأن يعود إلي قرائه وجريدته قبل أن يموت ويجلس علي عرشه ثانياً.. عرشه من الكتابة والذي يطل منه علي أحب من لديه في العالم وهم القراء والذين كانوا يلجأون إليه دائماً في كل مشكلة تواجههم حتي مع أولادهم!!. وفي الحقيقة أنني حينما قابلت أستاذي علي أمين في لندن وكان مصطفي أمين في السجن وجدته صابرا وقادراً علي مواصلة الحياة ولم يقصف قلمه وظل يكتب في الصحف اللبنانية حيث أنه يتنفس حبر المطبعة ولا يستطيع أن يعيش بدون أن يناجي عشاقه كل يوم وهم القراء الأحباء ولكني لاحظت أن علي أمين كان طليقا سجينا وأن مصطفي أمين سجينا حرا فكل منهما يتبوأ مكان الآخر ولكنهما يكتبان ولأن الكتابة هي جزء لا يتجزأ من تركيبتهما البشرية.. فهي جزء من كل منهما أي أن لكل منهما رأسا وذراعين وجسدا ورجلين وقدمين ثم أقلام وأوراق للكتابة خلقها الله لتلازمهما. السجين كان يكتب في السجن ويسرب الأوراق والحر كان يكتب في الخارج ويرسل أوراقه إلي السجين وتحولت كتاباتهما إلي كتب التهمتها أعين وعقول القراء ومازال النهر يجري حتي الآن بصحافة تلاميذهم بصماتهما علي جدران هذا الوطن الذي سوف يظل يحيا بأبنائه سواء سجنوا أم عاشوا أحراراً. ان مصطفي وعلي أمين تحولا إلي آلاف الكتاب علي مر الزمن فكل من دخل «أخبار اليوم» أخذ رشفة من الكوب المملوء بالموهبة الصحفية من هذين العملاقين غير أن الرحمة سوف تملأ قبريهما حيث أن الميت الصالح (ابن بار يدعو له وصدقة جارية وعلم ينتفع به) وها هي صفية مصطفي أمين وأولاد رتيبة مصطفي أمين والابنة البارة لعلي أمين والراحلة خيرية خيري دائمو الدعاء لهم أما الصدقة الجارية فهي موجودة من كل صدقات أبناء «أخبار اليوم» والذين تسبب الأخوان لهما في الرزق الدائم سواء كان علماً وصحافة أو مادياً وعن طريق الآلاف منهم تكون الصدقة الجارية بكل الحب والعرفان لصاحبي هذه المدرسة الدائمة الخضرة التي لم يستطع أحد أن يدمرها رغم المحاولات الكثيرة بل أصبحت مدرسة وانظروا إلي عشرات الصحف الخاصة التي تصدر الآن ستجدون عليها علامة الجودة (مدرسة أخبار اليوم) والحمد لله. وسوف تجدون في كل منها ملمحا من ملامح مدرسة «أخبار اليوم» ولو بحثتم فسوف تجدون بين من أنشأوها تلميذاً من مدرسة «أخبار اليوم» وهو الحفيد ياسر رزق ابن الأخ والصديق الغالي الراحل فتحي رزق الذي كان نموذجاً من تلاميذ مدرسة «أخبار اليوم» فقد كان جندياً بالسلاح في المقاومة في القنال وكان مقاوماً بالقلم مديراً لمكتب «أخبار اليوم» علي طول القنال ها هو ياسر رزق يقود المسيرة بجينات «أخباره اليومية» لو صح التعبير ومازالت المدرسة تزهو بها الصحافة المصرية وقد تحولت المدرسة إلي أم لكل الصحف الناطقة باسم الشعب.. رحم الله أستاذينا مصطفي وعلي أمين بقدر ما قدما للصحافة من فن وعلم وبقدر ما قدما لمصر من فن صحفي بالغ الأهمية والجاذبية أدام الله مدرستهما بالرحمة لهما علي مر الزمن وجعل قبريهما روضة من رياض الجنة جزاء ما تركا لنا من علم ينتفع به وكل صدقاتنا ترفع منها صدقة جارية علي روحيهما لأنهما أساس هذا الرزق.