أملك إجابة محددة.. لكن أملك تجربة تستحق أن أطلعكم عليها. التجربة لكرونكايت.. والتر كرونكايت. بدأ «والتر» عمله كصحفي في الثلاثينات من القرن الماضي. كان يدرك معني كلمة صحفي ولم تكن هناك تليفونات محمولة للمصادر يلاحقهم عبرها، بل كانت هناك حرب هي الحرب العالمية الثانية، التي أتيح لكرونكايت أن يشهدها كصحفي ومراسل لوكالة «يونايتد برس».. بل ويكون مع القوات الأمريكية في عملية الإنزال الشهيرة نورماندي.. ومع مرور الوقت كان كرونكايت يثبت قدميه شيئاً فشيئاً في المهنة التي لم تكن تعرف التصنيفات، بل كان المعيار الوحيد فيها هو «صحفي محترم ومهني» في مواجهة صحفي غير محترم وغير مهني، ولم يكن هناك من يطلقون علي كل من هب ودب «إعلامي»، سواء كان هذا الإعلامي صحفياً متواضع الموهبة، أو ضيفاً لزجاً تفرضه علينا البرامج، أو مذيعة محدودة الذكاء أو خليطاً من كل هؤلاء؛ لذلك ظل «كرونكايت» صحفياً حتي وهو يبدأ في تقديم نشرة الأخبار الرئيسية في قناة «سي بي إس» الأمريكية ذائعة الصيت. كان الخبر الذي يذيعه كرونكايت هو الخبر الحقيقي.. الصحيح.. الموثوق به، وفيما عداه لم يكن أحد يصدق، وتظل نسبة الشك موجودة لدرجة أن كرونكايت أصبح يلقَّب بالرجل الأكثر ثقة في أمريكا.. الرجل الذي ما إن تسمع الخبر منه حتي تثق به. ستظنون أن في الأمر مبالغات، لكني سأبرز لكم ما قاله الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، الذي أكد أن قواته لو دمرت فيتنام عن بكرة أبيها وأذاع والتر كرونكايت خلاف ذلك فسيصدق ما قاله كرونكايت وليس قادته!! كان كرونكايت من المعارضين بشراسة للحرب في فيتنام، ولعله أحد من أطلق علي فيتنام «المستنقع الذي تورطت فيه أمريكا»، وقال بعد أن عاد من تغطية الأحداث التي تلت معركة «تيت» عام 1968، قال الصحفي العائد إلي نيويورك إنه «أكثر ثقة من أي وقت بأن المغامرة الدامية في فيتنام ستنتهي بنا إلي الغرق في المستنقع». ووقتها نسب مقربون من الرئيس جونسون قوله: «انتهي الأمر، ما دمت قد خسرت كرونكايت فقد خسرت الرأي العام الأمريكي». ثم أعلن عدوله عن الترشّح لولاية تالية. عاصر كرونكايت العديد من الأحداث المهمة.. أذاع خبر اغتيال كيندي.. خبر الهبوط علي سطح القمر.. بناء سور الصين العظيم، فضيحة ووترجيت، وفي عام 1972 اختير في أحد الاستفتاءات كأكثر شخص يثق الأمريكيون به، وهو اللقب الذي ظل محتفظاً به طوال عمره ولم يجرده أحد منه، ولا أسهمت مواقفه السياسية أو الإنسانية في جعل الناس تنقلب عليه ولو للحظة واحدة، بل زاد احترامهم له واعتبروه عميداً للصحافة الأمريكية. ظل كرونكايت، الأكثر ثقة، يقدم نشرات الأخبار وأصبح رئيساً لتحرير النشرات الإخبارية في «سي بي إس» حتي مطلع الثمانينات، ثم قرر الاعتزال، لكنه ظل محتفظاً بلقب الرجل الأكثر ثقة في العالم. في 2009 مات كرونكايت عن عمر يناهز 92 عاماً إثر مرض في المخ. خرجت «واشنطن بوست» بعنوان رئيسي هو «موت الثقة». كتبت مجلة «تايم»: «إن ارتباط الثقة باسم هذا الرجل يجعلنا ندفنها معه». خرج أوباما لينعي كرونكايت فقال: «كان والتر كرونكايت الصوت الأكثر ثقة في أمريكا، كان دائماً أكثر من مجرد مذيع، كان شخصاً يمكننا أن نثق به لكي يوجهنا خلال أهم قضايا العصر، صوت يقين في عالم متقلب، كان كأحد أفراد العائلة، فقد دعانا كي نثق به ولم يخذلنا مطلقاً، فقد هذا البلد رمزاً وصديقاً عزيزاً وسنفتقده حقاً». السؤال الآن لك عزيزي القارئ: هل لدينا كرونكايت في مصر؟ (ملحوظة : أنشر هذا المقال كل فترة، وسأظل أفعل حتي نستدل علي كرونكايت في مصر).