مصر وبلاد الشام علاقة تاريخية وثيقة علي مر العصور، من يحكم مصر لا بُد أن يمد نفوذه إلي الشام، أو علي الأقل يحتفظ بعلاقات خاصة مع حكامه. هذه حقيقة تاريخية عبر عنها جمال عبد الناصر في كتابه الشهير «فلسفة الثورة» بمناسبة العودة من فلسطين بعد حرب 1948، عندما قال: اكتشفنا أن رفح ليست اخر حدود مصر. تذكرت ذلك وأنا علي قمة قلعة جبيل شمال بيروت، ما أروع الطبيعة هناك، الماء والجبل والخضرة! في منطقة جبيل متحف مفتوح للتاريخ، بتعاقب العصور والدول والحكام. وأعترف أن ذاتي المصرية قد انتعشت عندما نبهنا زملاؤنا اللبنانيون إلي وجود آثار مصرية فرعونية في جبيل. وهنا تذكرت علي الفور أن أسطورة الآلهة أوزوريس وإيزيس قد دارت بعض فصولها هنا في لبنان وفي جبيل، وأن الإلهة الشهيرة إيزيس قد عُبِدت هنا في لبنان. وحاولت أن استرجع معلوماتي عن تاريخ مصر القديمة لأتذكر العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين مصر ولبنان وكيف لعب ميناء جبيل دورًا مهمًا في هذا الشأن. وصعدنا إلي قلعة جبيل، وهي قلعة تنتمي إلي عصر الحروب الصليبية، ونظر إليَّ زملائي في المؤتمر العلمي، وهم من كافة أنحاء العالم العربي، نظرة تقدير واعتبار عندما قال المرشد السياحي ان المنطقة استمرت تحت حكم الصليبيين إلي أن جاء صلاح الدين الأيوبي من مصر ليحرر بلاد الشام، وبالفعل حدث هذا بعد معركة حطين، ولكن سرعان ما عاد نفوذ الصليبيين من جديد بعد وفاة صلاح الدين. ولم يتم القضاء علي الوجود الصليبي في بلاد الشام إلا بعد فترة من الزمن وبفضل سلاطين المماليك حكام مصر. ومع تأسيس الدولة الحديثة في مصر مع محمد عليّ، عادت الاستراتيجية المصرية القديمة من جديد، من يحكم مصر لا بُد له من تأمين الحدود الشرقية ومد نفوذه إلي بلاد الشام. وبالفعل انتزع إبراهيم باشا البطل الفاتح بلاد الشام من أيدي العثمانيين، ويعترف مؤرخو الشام بأن عصر محمد عليّ هو بداية الدولة الحديثة هناك، بل وربما أن اليقظة العربية أو حتي القومية العربية قد ولدت بتأثير غير مباشر من إبراهيم باشا وسياسته العربية. ولم تكن العلاقات بين لبنان ومصر مجرد علاقات سياسية وحكم وحكام، وإنما كانت أيضًا علاقات ثقافية ودينية. وقد تحدثنا من قبل عن الإلهة المصرية إيزيس ودورها في التاريخ القديم لبلاد الشام، كما لعب الأزهر دورًا مهمًا في الحفاظ علي الإسلام واللغة العربية في الشام، وحتي وقت قريب كان هناك رواق الشوام في الأزهر لاستقبال الطلاب الشوام. وإلي الآن يطلق أهل لبنان والشوام عمومًا علي المال كلمة «مصاري» نسبة إلي مصر ودورها الاقتصادي في بلاد الشام لا سيما في عصر محمد عليّ. وهرب مسيحيّو لبنان من الاضطهاد في العصر الحديث، وجاءُوا إلي مصر وساعدوا علي انتشار الصحافة الحديثة في مصر عبر آل تقلا وجريدة الأهرام، وآل زيدان ومجلة الهلال. وشهدنا ظاهرة مهمة ومستمرة حتي الآن، مَن طلب الشهرة في العالم العربي من فناني لبنان لا بُد أن يأتي إلي مصر، من بديعة مصابني وحتي نانسي عجرم! بدأت زيارتي لجبيل بداية تاريخية وانتهت نهاية تاريخية أيضًا؛ حيث احتاج زميلي المغربي تغيير بطارية ساعته، ودخلنا إلي أحد المحال في جبيل وسألنا البائع: من أين أنتم؟ فسكت زميلي وتطوعت أنا بالقول «من مصر». فابتسم الرجل وقال: من بلد عادل إمام اللي بيضحكنا، والسيسي اللي حمانا! سألته «السيسي حماكم؟» قال لي: نعم أنا مسيحي لبناني لكن السيسي بما فعله في مصر حمانا أيضًا. ولم يأخذ البائع من زميلي ثمن البطارية، بل قال هي هدية لكم. ولم يتكلم زميلي حتي لا يكتشف البائع أنه ليس مصريا. وخرج زميلي المغربي ضاحكًا ليقول لي: تحيا مصر! نعم، تحيا مصر، أقولها من فوق جبل لبنان. التاريخ معنا، فهل نستطيع نحن استثمار ذلك التاريخ؟ هذا هو التحدي، فهل من استجابة؟!