قال عبدالحليم: «إن مصر لن تموت، وسيأتي يوم تخرج فيه هذه الأغنيات للحياة لتؤدي دورها الذي أجهضته النكسة». شهداء .. وشهداء الاثنين : الحرب سجال، جزر ومّد، كر وفر، يوم لك ويوم عليك، والمؤمن بأرضه وسمائه وحريته هو المنتصر في النهاية. نحن عواجيز من زمن عبدالناصر، عرفنا الحرب، عرفنا معني الاستشهاد، ولم يكن شهداؤنا بالعشرة أو العشرين بل بعشرات الآلاف، ولم يكن ثمة من بيت واحد ليس به شهيد. لم يكن أهل الشهيد يستعرضون حزنهم أمام الخلق، بل كانوا يتلقون الطعنات في هدوء وثقة وإيمان بالوطن. كانوا يحزنون، وكان حزنهم جارفاً علي أبنائهم وفلذات أكبادهم، ولكنه حزن شفيف نبيل مختلط بمعان كبري للوطنية والوطن والجهاد، الجهاد الصادق الحقيقي وليس ما يسمي الآن بالجهاد، هذا النصب المصنوع المفتعل، جهاد اللحي والعمائم السوداء المزيفة القادمة تحمل أتربة تاريخ داسته أرجل القرون والسنوات. كانت الحرب في المجهول، وكان اسم ذلك المجهول «سيناء» لا تعرف أمهات الشهداء وآباؤهم من الفلاحين الطيبين أين تقع، لم نر حرباً طوال حياتنا لأن حروبنا كانت ودائماً بعيداً عن المدن، في صحراء لم يرها أهلونا، ولم نر من ذلك الموت سوي النبأ ساعة الإبلاغ الرسمي، لم تكن أدوات البث قد انتشرت هذا الانتشار المخيف، ولم يكن للإعلام دوره في الحرب، كما هو حادث اليوم، فقط، كنا إذا أردنا معرفة وجهة نظر الأعداء فيما قاله لنا راديو عبدالناصر أن نستمع إلي الإذاعة البريطانية، وكان بعضنا يسمع إذاعة إسرائيل مجبراً وعلي مضض، هكذا كان الاستشهاد فكرة، وكان الشهيد أغنية هادئة الحزن، ولم يكن الحزن لطماً للخدود وشقاً للجيوب، ولم تكن أم الشهيد تقول بصوت يسمعه كل الناس: «أريد جثة ابني، وإذا لم يكن الرئيس قادراً علي أن يأتي بها فليرحل». كان العزاء يتم في هدوء، نتنقل من ديوان إلي ديوان ومن سرادق إلي سرادق، قري مجهولة بعيدة لا يعرف أحد عنها شيئاً، يأتيها الخبر، فيتجمع البسطاء في المنادر صامتين في جلال، ولا يخطر ببال أحد منا أن يتهم الدولة بالتفريط في دمائهم وأجسادهم، أجسادهم التي لم نر أحداً يطالب بها طوال حروبنا مع العدو الإسرائيلي، أجسادهم التي تخرج عظاماً الآن ونحن ننجز العمل العظيم من تحت الرمال في سيناء، ولو كان الحفر في قلب سيناء لخرجت لنا عظام من الرمال بقدر مواطني أكثر من دولة عربية. كنا نحن عواجيز زمن عبدالناصر ندرك أن الوطن علينا حق، وأن موتنا في سبيله حق، وأن الجهاد دين، وحرية الأوطان أغلي من الحياة. الحزن أيضاً كان من حقنا فقلوبنا ليست أحجاراً ولسنا دمي خشبية، لكنه كان حزناً وقوراً صبوراً محترماً يليق بأهل شهداء..!! كنا في حالة من المواجهة الدائمة مع عدونا الغادر المغتصب الإسرائيلي، لم تكن هناك فوارق واسعة بين فترات الحروب والسلم، فحتي الصمت كان نضالاً، كان الزمن موحياً، وكنا نحن كتاباً وشعراء وخطباء وسياسيين نعرف عملنا جيداً حتي من كان يأخذ المآخذ علي عبدالناصر فالانفلات عن المجموع والاستمتاع بلذة الانتقاد أثناء المعارك كانا خيانة، كنا قبضة واحدة، ننهزم وننتصر فنجيد الحزن ونجيد الفرح، ولم نكن ننزوي في جانب مظلم نصنع النكات البلهاء، ونتندر علي موتانا لنجد أنفسنا نقف في صف الأعداء ضد الوطن بامتياز. يا شباب مصر الغض، يا من لم يتح لهم معرفة الوطنية الحقة في تعليم مدرسي خائب، وفي الحياة تحت زمن مقلوب خائب، ورباهم إعلام خائب، وخلقوا مُتَعهم الخائبة من ضحايا حرب من أجل مستقبلهم واستشهاد شباب نالوا مرتبة شرف لا تحققها جلسة التويترات والفيس بوك والتندر علي مسلك الرئيس البطل، والاستهانة بدم يصنع لهم مستقبلاً لم يسهموا فيه بقطرة. لقد لعب الأعداء في الداخل والخارج بالعقول، فصارت لا تدرك ما يحيق بمصر من أخطار ومحاصرة، ولا تستطيع هذه العقول المصنَّعة النفاذ إلي أبسط صور المعادلات غير المعقدة، ولم يعد ثمة إحساس بوطن!! إلي كل من ضحك علي سخرية تافهة تنال من أبنائنا الشهداء، وكل من ترك انتماءه للأرض والدم وراح يعبث مع العابثين، نقول إن النار حين تقترب لا تفرق بين من انتمي ومن تخلي وكفاكم عبثاً، فإن ما يحدث لبلادكم وفي بلادكم يوقظ الحجارة الصماء!! عودة الحياة الخميس : في يونيو عام 67 عام النكسة كنت قد غادرت معتقلي في إبريل، ولكي أنسي ما حدث لي ولصحبتي، وما أراه مخيماً علي بلادي ومتوقعاً، قررت أن أنزل إلي الصعيد لأجمع أشلاء العمل الفني الشعبي النضالي الفريد «سيرة بني هلال»، ورحت أجمع الشعراء والرواة وأصطحبهم إلي «أبنود» أسجل وأدوّن وأغرق تماماً وأغيب غياباً مطلقاً فيما أفعل مؤمناً به إلي أبعد الحدود، نسيت من أنا، ونسيت القاهرة نسياناً حقيقياً. فجأة وجدت معظم أهل البلد يهرولون يسبقهم الأطفال إلي حيث أقيم صائحين «الحق يا عبد رحمان عبدالحليم حافظ علي التليفون». كأنني استيقظت من حلم، لم يكن في أبنود «العمومية» سوي تليفون واحد في الوحدة المجمعة، فعدت وحولي العشرات. حين أجبت علي الهاتف وجدت عبدالحليم يصيح: «إيه يا أستاذ؟ إنت بتعمل أيه عندك والبلد علي باب حرب؟». أذكر أني قلت سامحني الله : «حرب أيه يا أستاذ؟ دي بلد حتحارب؟.. البلد اللي تحبسني أنا وإخواني التقدميين حتحارب إسرائيل؟». غضب عبدالحليم.. وقد كانت وقفته معي أثناء اعتقالي أمرا يثير عجب من لا يعرف عمق علاقتنا وصدقها. قال: «طب خد الأستاذ أحمد سعيد».. أطال الله في عمره وشفاه. راح الأستاذ أحمد سعيد يبكتني، فقد خاض حرباً مريرة مع المباحث العامة كي يسمحوا لي بأن أكتب من جديد، قالوا له كما ذكر لي مراراً ونشره مراراً : «بقي إحنا نحبسه وأنت عاوز تُطلقُه علينا تاني؟». قال: «الأبنودي هو مدفعيتنا الثقيلة، هل يمكن لكم أن تدخلوا الحرب بدون المدفعية! نحن في الإعلام نعتبر الأبنودي مدفعيتنا». فصمتوا. راح الأستاذ أحمد يقول: «أنت لا تعرف ماذا فعلت لكي تعود لنا.. ارجع أرجوك». ثم أعطي السماعة لوجدي الحكيم رحمه الله وكان يعرف أنه صديقي وله دلال عليّ، فقال وجدي: «يا أستاذ.. احنا في انتظارك النهارده قبل بكرة، وفي القطر خلَّص الأغاني.. وتعالي جاهز». لماذا أتذكر كل ذلك الآن ونحن كما نري لسنا في لحظات فضفضة أو سرد ذكريات؟.. ذلك لأني سمعت أغنيات تلك الفترة التي أنجزناها تذاع بعد كل ذلك الزمن وكأنها كتبت لحرب السيسي الخاطفة التي أنقذ بها الأمة المصرية من إحباطاتها بعد الحادث البشع لأبشع من رأينا علي ظهر الأرض بعد المغول. بعد النكسة، استضيف عبدالحليم حافظ في التليفزيون المصري وراحت الراحلة سلوي حجازي تتهمه بأنه والأبنودي من أسباب النكسة فقد شحنا الناس حماسة ووطنية وانهزمنا. رد عبدالحليم بنبوءة لم تتحقق إلا هذه الأيام قائلاً: «اسمعي، ما أنجزناه أنا والأبنودي أغنيات خالدة تنقصها معركة، نحن حاربنا وأدينا واجبنا والذنب يقع علي من لم يحارب، إن مصر لن تموت وسيأتي يوم تخرج فيه هذه الأغنيات للحياة لتؤدي دورها الذي أجهضته النكسة». هذا ما قاله العندليب لسلوي حجازي، وأظن أن الشريط موجود ومختبئ في «مكتبة التليفزيون» التي تشبه «بيت جحا» وسنراه يوماً. المهم.. وبعد تلك الحرب التأديبية الخاطفة الرائعة التي استرد السيسي فيها أرواحنا من الإحباط وحصار اليأس، فوجئت بصديقي الصحفي القديم مدير تحرير ال«الأخبار» أسامة شلش يهاتفني: «الحق، أغنيتك «اضرب» بتاعة عبدالحليم بتتذاع».. وأخيراً استمعت إلي الأغنيات التي لم أستمع إليها منذ مولدها.. استمعت أولاً إلي «اضرب» الأغنية الوحيدة التي لحنها الراحل «محمد الموجي» والتي كتبتها في القطار وأنا عائد من «أبنود» إلي القاهرة حسب الاتفاق، ولأنها كانت جاهزة فإن «الموجي» اختطفها كعادته مع نصوصي، ذلك لأن بقية الأغنيات لحنها «كمال الطويل» رحمه الله أما الجزء الأخير الذي هو «موال النهار» و«المسيح» فقد لحنهما الراحل بليغ حمدي كما سيرد. هاتفني أسامة شلش قائلاً: «افتح التليفزيون». هكذا وبعد ثمانية وأربعين عاماً تحققت نبوءة العندليب واستمعت إلي أغنية «اضرب».. وهذه هي الأغنية وكأنني ألفتها من جديد: اضرب اضرب اضرب اضرب لاجل الصغار لاجل الكبار لاجل النهار.. اضرب لاجل البلاد لاجل العباد لاجل الولاد اضرب لاجل البنات والأمهات لاجل النبات اضرب لاجل الربيع لاجل الرضيع لاجل الجميع اضرب اضرب كمان واخلق أمان لاجل الحياة ولاجل عشاق الحياة ولاجل صناع الحياة.. اضرب..!! أما الأغنية الثانية فلقد حذفوا منها «كوبليه» مهماً في زمن السادات بعد أن وضع 99٪ من أوراق اللعبة في اليد الأمريكية غير المؤتمنة والتي نراها اليوم راعية للإرهاب العالمي، وسعيدة بحصارها الفاشل لنا، بالمرتزقة من الخارج وبالعملاء من الداخل. أما الأغنية فتقول كلماتها التي عنوانها: ابنك يقولك يا بطل ابنك يقولك يا بطل: «هات لي نهار» ابنك يقولك يا بطل: «هات لي انتصار» ابنك يقول أنا حواليّا «الميت مليون» العربية ولافيش مكان للأمريكان.. بين الديار!! إبنك يقولك ثورتك عارفة الطريق وعارفة مين يابا العدو ومين الصديق ثابتة كما الجبل العتيق حالفه ع الانتصار وابنك يقولك يا بطل هات لي نهار أغنيتان من مجموعة كبيرة من الأغنيات من بينها «أحلف بسماها وبترابها» التي تعرفونها، وكذلك أغنيات لا تعرفها معظم الأجيال الجديدة مثل: «راية العرب» و«بركان الغضب» وكذلك الأغنية التي كتبت ولحنت وتغني بها عبدالحليم في الاستديو، وكل تلك الأغنيات من تلحين العزيز الراحل كمال الطويل، وحين احتدمت المعارك وأيقنّا أن جيشنا يتهاوي أمام العدو خرجت هذه الأغنية التلقائية: ولا يهمّك يا ريّس ولا يهمك يا ريس م الأمريكان يا ريس حواليك أشجع رجال دا الصبر قاد حرايق جوّه صدور الخلايق ما يصنع الحقايق إلا عبور المحال!! وهي أغنية تبدو كمن كان ينفخ في الرماد المنطفئ بحثاً عن اللهيب. المهم.. أن الأغنيات التي كانت تنتظر حرباً قد أفرجت عن نفسها، كسرت أدراج الإذاعة والتليفزيون وقامت بعد ثمانية وأربعين عاماً لتلعب دورها الحقيقي، 48 عاماً؟.. هل فعلاً مرّ كل ذلك الزمن؟.. وهل عشت كل ذلك لأري الأغنيات تُبعث في زمن وطني جديد؟!.. هو الصدق، ذلك الصندوق الذي حمي ثروتنا كل ذلك الزمن، كنت وكمال الطويل أكتب الكلمات وأدفع إليه بالورقة فيلحنها في الحال ويستحثني علي المزيد، نسي «وسوسته» المعتادة التي صارت من أهم ملامح شخصيته وأسفر عن مقاتل وطني حقيقي. رحم الله الجميع: عبدالحليم المحرك الأصلي لكل هؤلاء والموجي والطويل وبليغ ووجدي، وأطال الله في عمر أستاذنا «أحمد سعيد»، وأتمني لو كان يقوي علي ذلك أن يسرد لنا قصة هذه الأغنيات و«عركته» مع المباحث العامة، وإجباري علي العودة من أبنود للمشاركة، فهو كما هو مذيع عظيم تحمّل ما تحمّل من اتهام له بأنه أيضاً من أسباب النكسة، هو كاتب جميل أيضا ننتظر منه الشهادة علي تلك الفترة. لا ينسينا الزهو بانتصار الصدق، الزهو بانتصار الحق الذي تجسد في بطولة جيشنا المصري الذي رد الاعتبار لأبنائنا الفقراء الذين ذهبوا لالتقاط رزقهم في أرض الله كعصافير الهجرة ليتمكن منهم هؤلاء الأوغاد أصحاب اللعبة المفضوحة التي لم يسترها الاختباء تحت عباءة الدين، القتلة شاربو الدماء والذين يرحلون إلي بلاد الآمنين لقتل أهلها البسطاء الشرفاء بالأجر المسموم الذي تقدمه لهم الأيدي السوداء التي تقسّم أدوار الغدر فيما بينها علي عباد الله الآمنين!!. ويا إخوتي : لن يكون هؤلاء آخر المختطفين، ولا نهاية مسيرة شهداء الغربة، وقبل أن يعود الأبناء إلي بلادهم سوف يقتنصون بعضهم ليلعبوا لعبتهم الدنيئة مرة أخري، فلا يجب أن يهزنا ذلك، أو ينال من عزيمتنا فالنصر لا يعرف الطريق لليائسين.. ومن يضحك أخيراً، يضحك كثيراً كما نعرف!!.
