اعلم أيدك الله بروح منه، إن الله جعل الليل لأهله مثل الغيب لنفسه، فكما لا يشهد أحد فعل الله في خلقه، لحجاب الغيب الذي أرسله دونهم، كذلك لا يشهد أحد فعل أهل الليل مع الله في عبادتهم، لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها الله دونهم. فجعل الله الليل لباساً لأهله يلبسونه، فيسترهم هذا اللباس عن أعين الأغيار، يتمتعون في خلواتهم الليلية بحبيبهم فيناجونه، من غير رقيب. الليل لي يقولون في الليل: يا رب أسمعتنا فسمعنا، وأعلمتنا فعلمنا، فاعصمنا، وتعطف علينا، فالمنصور من نصرته، والمؤيد من أيدته، والمخذول من خذلته. فهذا أنت يا عبدي في النهار معاشك، وفي الليل فيما تعطيه تلاوتك من جنة ونار وعرض، فأنت بين آخرة ودنيا وبرزخ، فما تركت لي وقتاً، تخلو بي فيه، لا لنفسك، بل لي، الليل لي. ما عرفني، ولا عرف مقدار قولي «الليل لي» وما عرف لماذا نزلتُ إليك بالليل، إلا العارف المحقق، الذي لقيه بعض اخوانه، فقال لي «يا أخي، اذكرني في خلوتك بربك» فأجابه ذلك العبد «إذا ذكرتك فلست معه في خلوة»، فمثل ذلك عرف قدر نزولي السماء الدنيا بالليل، ولماذا نزلتُ، ولمن طلبتُ؟ وإذ أبنتُ لك عن «أهل الليل»، كيف يكونون في «ليلهم» فإن كنت منهم، فقد علمتك الأدب الخاص بأهل الله، وكيف ينبغي لهم أن يكونوا مع الله؟ ومن أهل الليل مَن يكون صاحب عروج وارتقاء ودنو، فيتلقاه الحق في الطريق، وهو نازل إلي السماء الدنيا، فيتدلي إليه فيضع كنفه عليه، وكل همه، من كل صاحب معراج. وهؤلاء هم الذين يعرفون أن إدراك الأشياء المرئية، إنما هو من «اجتماع نور البصر مع نور الجسم المستنير»، شمساً كان، أو سراجاً أو ما كان، فتظهر المبصرات، فلو فُقد الجسم المستنير، ما تغير شيء، ولو فُقد البصر، ما أضاء شيء، مما يدركه البصر مع النور الخارج أصلاً. ألا تري صاحب الكشف، إذا أظلم الليل، وانغلق عليه باب بيته فيكون معه، في تلك الظلمة شخص آخر وقد تساويا في عدم الكشف للمبصرات؟ فيكون أحدهما ممن يكشف له في أوقات: فيتجلي له نورٌ، يجتمع ذلك النور مع البصر، فيدرك صاحب الكشف ما في ذلك البيت المظلم، مما أراد الله أن يكشف له منه، كلَّه أو بعضه يراه مثل ما يراه بالنهار، أو بالسراج، ورفيقه الذي هو معه، لا يري إلا الظلمة، غير ذلك لا يراه، فإن ذلك النور ما تجلي له، حتي يجتمع بنوره بصره، فينفر حجاب الظلمة. الكون كله أصلاً مظلم فلا يري إلا بالنورين «البصر والبصيرة» فإنه يُحدث هذا الأمر. أقطاب الليل، من يكون «الليل» في حقهم كالنهار: كشفاً وشغلاً، قال تعالي «وإنكم لتمرون عليهم مُصبحين، وبالليل أفلا تعقلون» قرآن كريم أي تعلمون منهم في الصباح ما تعلمون منهم في الليل. وبكل ليل في القرآن، أمورٌ وعلوم، لا يعرفها إلا أهل الله خاصة، «والله يقول الحق ويهدي أهل السبيل» قرآن كريم. الفتوحات المكية، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد الرابع، تحقيق الدكتور عثمان يحيي.