لماذا يزداد معدل الجريمة؟ ولماذا ينتشر العنف في المجتمع؟ ولماذا تسيطر التيارات المتطرفة علي العقول؟.. أسئلة تفرض نفسها في هذا الوقت العصيب الذي يمر به النسيج المصري بعد أن اختلت موازينه وتفككت أواصره وأصبح الجفاء والخصومة والكراهية صفات سائدة في المجتمع المصري.. إجابات هذه الأسئلة تكشف عنها آخر دراسة أعدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء والتي تؤكد أن معدلات الفقر ارتفعت في مصر إلي 40%.. 3 قري وقع عليها اختيارنا في محافظة الفيوم لكي نرصد معاناتها لأنها في الواقع ليست معاناة بل مأساة بكل ما تحمله الكلمة من معني.. "طجا وعزبة محمد حسن والجبيلي" ثلاث قري تجسد الفقر في أبشع صوره.. تعبر عن خيوطه التي تدفع إلي الكره والبغض ورفض أي شيء.. أيها السادة المسؤولون لقد قامت ثورتان فماذا تنتظرون لرفع هذه القري من قاموس الفقر المدقع؟! "الأخبار" ترصد علي الطبيعة أوضاع 3 قري بمحافظة الفيوم من بين 53 قرية بالمحافظة تم تصنيفها ضمن القري الأكثر احتياجا . عزبة محمد حسن» تعيش في عصور ما قبل التاريخ الأهالي ينامون علي الحصير .. والبيوت عشش من الطين .. و«حنفية» واحدة مصدر الشرب آخر مسئول زارها منذ 30 عاما ومنازلها مترين × مترين بيوتهم عبارة عن عشش من الطين والطوب اللبني الأبيض.. أسقفها من «الغاب» وقطع الأشجار وحزم قش الأرز.. مساحتها تترواح ما بين مترين في مترين والكبير منها ثلاثة أمتار.. تجد الشروخ والتصدعات بين جدرانها فتعتقد أن انهيارها علي أهاليها أصبح وشيكا.. تضع قدميك داخل هذه العشش تجد سريرا بجواره حوض صغير وحمام بلدي لقضاء حوائجهم.. أما المطبخ فهو عبارة عن «بومبة» موجودة إلي جانب السرير.. تنظر إلي أسفل السرير فتجد مجموعة من الزجاجات الممتلئة بالمياه لاستخدامها عند انقطاع المياه.. شوارعها عبارة عن أرض طينية مساحتها متر في متر. أنت إذن داخل عزبة محمد حسن التابعة لمركز إطسا أو حبيبة 6، كما هي مسجلة بواقع الأوراق الرسمية لمحافظة الفيوم التي لم يصلها المياه.. العزبة بالكامل مازالت تعيش علي «حنفيه مياه» واحدة فعلي الرغم من قيام ثورتين إلا أن الفقر مازال ينهش في أجسادهم فتجد أمنيهتم الوحيدة هي توفير «شربة ماء» نقية لكل منزل.. اقتربنا من أحد الشيوخ الجالسين أمام منزله وسط بعض المواشي، حيث ملأت ملامحه التجاعيد ممسكا بيده جانبه الأيسر يتألم ويتصبب العرق من وجهه يتمتم بكلمات غريبة ولكن مضمونها هو غضب من شيء معين، فتعرفنا عليه فقال: إنه سعيد علي يونس يبلغ من العمر 61 عاما يعيش في عزبة محمد حسن.. سألناه لماذا أنت غاضب؟ فقال: إن الحياة أصبحت صعبة للغاية بسبب الفقر الذي يحاصرنا من جميع الاتجاهات, وأنا أعيش في «عشة» مترين في مترين هو وزوجته بناها من الطين والطوب بعرق جبينه وأهالي العزبة بالإجماع يعيشون علي «حنفيه مياه» واحدة، حيث يصطفون في كل صباح باكر ليقوموا بتنظيف «الصحون» ويقوموا بتعبئة زجاجات مياه و»جراكن وحلل» لكي يستخدموها في طهي الأطعمة والشرب طوال اليوم، مضيفا: إنه رغم أن المياه طعمها يكون «مراً» لكننا نقوم بالشرب منها حتي لا نموت عطشا لأن أقرب مكان من الممكن أن نقوم بتعبئة المياه منه هو عذبة طجا وبين عزبة محمد حسن وطجا هي ثلاثة كيلو متر وهذا مشوار صعب للغاية علي النساء والرجال، خاصة وأن صحتنا «علي قدها». واستطرد عم سعيد قائلا: إنه ذهب منذ يومين إلي المستشفي بسبب «وجع» في جانبه الأيسر وقام «بقطع» تذكرة وقام بالكشف وقامت الطبيبة بكتابة علاج له وعندما توجه إلي صرف العلاج فقال له مسئول صرف الأدوية: «مفيش عندنا دوا من ده اشتريه من بره»!.. فتوجه إلي صيدلية وقام بشراء العلاج رغم أن مصاريف هذا العلاج كانت مخصصة لطعامه هو وزوجته، ولكن مع بدء نهش المرض في جسده قرر أن يستغني عن الدواء مقابل الطعام. الفواتير نار ويضيف عم سعيد: إن الأمنية الوحيدة لأهالي العزبة هي «حنفية مياه لكل عشة»، بالإضافة إلي النظر إلي أسعار فواتيرالكهرباء لأننا قمنا بتوصيل «سلك» لكل منزل وقالوا لنا: إنكم تحاسبون بنظام «الممارسة» وهي فواتير غالية الثمن تصل إلي 300 جنيه للعشة التي لا يوجد بها سوي لمبة واحدة فلا يوجد أي أجهزة كهربائية نهائيا في عششنا وعندما نقول للمحصل «الفواتير غالية حرام عليك» يقول لنا: إن هذه هي أسعار «الممارسة» التي حددها الوزير وليس لنا أي تدخل فطلبنا منه مرارا وتكرارا أن يقوم بعمل «عدادات كهرباء لنا» ويقوم بمحاسبتنا علي الأرقام الموجودة بالعداد بما يرضي الله، ولكن لا حياة لمن تنادي. وحول سؤالنا لماذا لا تتقدموا بشكوي لشركة الكهرباء بإطسا لعلاج مشكلة فواتير الكهرباء المرتفعة، وكذلك الصرف الصحي لتوصيل المياه إليكم وضع عم سعيد رأسه علي يده وظل يبتسم قائلا: «إحنا مفيش مسئول جالنا من 30 سنة!».. فقلت ولا يوجد رئيس مركز مدينة يقوم بجولات ميدانية؟ فقال لاء، ولا حد يعرف عننا حاجة»! «عايز بطانية» انتقلنا بعد ذلك إلي «عشة» أخري في حارة صغيرة يملأ «الطين» أرجاءها، دخلنا إلي داخل هذة «العشة» وجدنا عم صالح كامل يجلس علي «طاولة» أي أن هذه العشة كانت معدة قبل ذلك لاستخدامها «كاسطبل» لحياة الحيوانات وبعد أن جاء عم صالح ليعيش بها وضع محموعة من الطين في هذة الحارة المخصصة لغذاء المواشي ثم قام بوضع «حصيرة» عليها وبجانبها «سجادة صلاة» فاقتربنا من عم صالح لنمد أيدينا لكي نصافحه، فوجدناه كفيفا يسبح بحمد الله فسألناه عن مطلبه من محافظة الفيوم فقال: نفسي في «بطانية» لأن الجو «برد» أوي وأصبحت غير قادر علي تحمل نسمات الهواء الباردة، مضيفا: إنه «كبر» في العمر وأصبح غير قادر لأن عظامه «اتكسرت» فقلت: وماذا بعد «البطانية»؟ فقال لي: نفسي أنام مطمن إن الحيطة اللي جنبي والسقف اللي فوقي ميقعش عليا»، موضحا أنه كفيف ولكنه يشعر من خلال حاسة السمع بأن الهواء يدخل إلي العشة من خلال الثقوب الموجودة في الجدران، مؤكدا أننا الآن في فصل الشتاء وتهبط الأمطار فتقوم «بتسييح الطين» في الجدران فتقوم الأمطار بعمل ثقوب في الجدران وتتحول إلي مداخل للهواء، بعد ذلك فيصبح الجو شديد البرودة جدا بعد الساعة الثامنة مساء وأنا رجل كبير في السن ولم أعد أتحمل فقلت هل تريد شيئا آخر فابتسم قائلا: أنا مبقتش عايز حاجة من الدنيا خالص إني أموت علي لا إله إلا الله. نفسنا نشرب بعد ذلك خرجنا لكي نعود إلي ما حيث أتينا فوجدنا طفلين عائدين من المدرسة وتحولت ملابسهم إلي اللون الأسود فسألناهم لماذا تحولت ملابسكما هكذا؟.. فقالوا إننا جئنا من المدرسة من إطسا إلي هنا وكل يوم نقوم بالذهاب علي اقدامنا في الصباح والعودة علي أقدامنا مرة اخري ليصبح معدل سيرهم 6 كيلو متر في اليوم الواحد فنظرنا في وجوههم، حيث ملأتها علامات التعب والشقي والإجهاد فملامحهم تحولت وكأنها رجال عبث بهم القدر فسألناهم ماذا تريدون فقالوا: «عايزين نشرب مياه حلوة» و «عربية تودينا المدرسة».