قبل ايام، نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية واحداً من اخطر التحقيقات الصحفية تحت عنوان "امريكا في غاية السرية" استغرق اعداده عامين وشارك فيه عشرون صحفياً من نجوم هذه الصحيفة العريقة التي حققت العديد من الخبطات والإنفرادات ربما كان اشهرها فضيحة ووترجيت التي اطاحت بالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1974. القيمة الكبري في هذا العمل الصحفي المبهر هي الحقائق والأرقام والمعلومات التي تضمنها والتي تؤكد كلها ان الولاياتالمتحدة التي يعتبرها الكثيرون رمزاً لليبرالية والديموقراطية في العالم اصبحت الأن مجتمعاً يحيط به الغموض وتغلفه السرية وكأنها جمعية ماسونية!! يقول تحقيق الواشنطن بوست ان فوبيا الخوف من الهجمات الإرهابية قد اجتاحت امريكا منذ هجمات سبتمبر عام 2001 فاندفعت بشكل جنوني في هيستيريا الحرب ضد الإرهاب .. وهناك الأن في امريكا اكثر من 3300 منظمة حكومية وخاصة تعمل في مجال الأمن الداخلي والمخابرات ومكافحة الإرهاب. ويعمل في هذه المنظمات بالغة السرية 854 الف شخص . وفي واشنطن العاصمة وحدها هناك 33 مبني للمخابرات بالإضافة الي 51 مؤسسة فيدرالية في 15 مدينة امريكية تتابع الأنشطة الإقتصادية للجماعات الإرهابية وتعمل كلها تحت شعار سري للغاية. وتقول واشنطن بوست ان الأجهزة السرية الأمريكية تصدر 50 الف تقرير استخباري كل عام وتصل الميزانية السنوية لأجهزة المخابرات الأمريكية الي 75 مليار دولار بالإضافة الي الميزانيات المخصصة لمكافحة الإرهاب الداخلي. ونتيجة للمبالغة الشديدة في تقدير حجم خطر الإرهاب علي امريكا لم يعد هناك من يجرؤ علي وقف هذا الإهدار الجنوني للجهد والمال خاصة بعد فشل كل هذه الأجهزة في اكتشاف العديد من العمليات الإرهابية ربما كان اشهرها محاولة تفجير طائرة الركاب الأمريكية في نهاية العام الماضي والتي اتهم فيها شاب نيجيري. والطريف ان احد ركاب هذه الطائرة هو الذي اكتشف العملية الإرهابية وتمكن بمفرده من السيطرة علي الإرهابي قبل ان يفجر الشحنة الناسفة التي كان يخفيها في ملابسه. خطورة ما يحدث في امريكا الآن لا تقتصر علي اهدار اموال دافعي الضراب بحجة حماية الأمن القومي .. الخطر الأكبر يكمن في ملامح الدولة البوليسية التي بدأت تظهر بوضوح علي وجه تمثال الحرية الأمريكي. واذا كانت المغامرات العسكرية الأمريكية في العراق وافغانستان قد اثقلت كاهل المواطن الأمريكي وجعلته يخوض معركة يومية من اجل الحفاظ علي وظيفته وبيته واحتياجاته المعيشية، فالذي لا شك فيه ان اعتبارات الغموض والسرية التي فرضتها سطوة الأجهزة الأمنية والإستخباراتية قد بدأت تدمر العديد من اروع جوانب الحياة الأمريكية في مقدمتها الشفافية والحرية والديموقراطية. وبمعني اخر، فإن الحلم الأمريكي يتحول الأن الي كابوس، ليس للأمريكيين وحدهم بل ايضاً للكثيرين في مختلف انحاء العالم.