الصراع بين العامية والفصحي ليس حديث العهد بل بدأ منذ عصر النهضة، بعد أن دعا « ولكوكس » إلي الكتابة بالعامية المصرية ومهاجماً العربية الفصحي. تتميز الكتابة الصحفية في مصر والعالم العربي أنها تقف وسط ما بين العامية والفصحي، تقرأها جميع الشعوب العربية علي اختلاف لهجاتها، ويقرأها أنصاف المتعلمين فيفهموها، لقد تعلمنا في مدرسة الكاتب الكبير رائد الصحافة المصرية مصطفي أمين أننا حين نكتب علينا أن نضع في اعتبارنا رجل الشارع العادي غير المتعلم وفي الوقت نفسه لانهبط بالذوق العام، نرتقي باللغة محافظين علي مفرداتها وقواعدها.. أما الكتابة باللهجة العامية المصرية «القح» التي انتشرت في الآونة الأخيرة والتي ساهمت في إفساد الذوق العام لما تتمتع به العربية من مفردات جميلة تنمي الذوق والحس وتساهم في تشكيل الوعي، مازال البعض، ومنهم كبار الكتاب، يصر علي الكتابة بها معتقداً أنها أسهل طريقة للوصول إلي القراء..!.. لست من المتعصبين للكتابة بالفصحي ولن أكون من المزايدين علي من يكتب بها لا باسم الدين ولا باسم العروبة، فالكتابة الصحفية التي وعيت عليها ليست لغة عربية فصحي، بل هي خليط ما بين الفصحي والعامية كما قلت مقدماً بحيث يفهمها القارئ غير المتعلم وفي الوقت نفسه تحافظ علي قواعد اللغة العربية بسجعها ومفرداتها الرائعة التي كادت أن تندثر وسط طوفان العامية «القح» أجيالاً وراء أجيال.. أما الطريقة التي نتحدث بها ونفكر بها ونتعامل بها لو أفرغناها علي الورق فلن نستطيع قراءتها، وأصدقكم القول أني أتعب وأجهد ومثلي الكثيرون في قراءة مايكتب في الصحف بالعامية المصرية، لنتخيل مثلاً أن الصحف الخليجية تصدر باللهجة الخليجية، والصحف المغربية تصدر باللهجة المغربية، والصحف الموريتانية تصدر باللهجة التي يتحدثون بها، وهكذا كل شعب يكتب بلهجته، بالقطع لن نستطيع قراءة ما يُكتب، وهم أيضاً كذلك، وستنغلق كل دولة علي مواطنيها ولن نعرف عن بعضنا شيئاً من المحيط إلي الخليج ! أما الكتابة الصحفية التي هي وسط مابين الفصحي والعامية والمنتشرة في كل الصحف المصرية والعربية تجعلنا شعوباً وقبائل نتحدث بلسان عربي ليفهم بعضنا البعض، أما العربي المصري أو العامية المصرية فهي معشوقتنا التي تميزنا بها ولا نستطيع التفريط فيها حديثاً وغناء.. والصراع بين العامية والفصحي ليس حديث العهد بل بدأ منذ عصر النهضة، بعد أن دعا « ولكوكس » إلي الكتابة بالعامية المصرية ومهاجماً العربية الفصحي زاعماً أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحياة الحديثة، وادعي أن الشعب المصري تأخر لأنه لم يستعمل العامية، وعاقته الفصحي عن الابتكار والاختراع، وله في ذلك أهدف استعمارية، وفي عام 1909 انتشرت الدعوي للكتابة بالعامية في كتابات الغربيين والعرب مثل كارل فولرس الألماني الذي هاجم الفصحي لأنها جامدة، ولا تساعد المصريين علي النهضة الفكرية والتقدم الحضاري، كما ألف سلدن ولمور الإنجليزي كتاباً سماه «العربية المحلية في مصر»، معتقداً أن اللغة الإنجليزية ستسيطر علي مصر، واتفق هؤلاء جميعاً علي ضرورة جعل العامية لغة العلوم والآداب والفنون، ومن المصريين والعرب الذين تبنوا الدعوة للكتابة بالعامية كان سلامة موسي عام 1958، ومازن غصن عام 1940، ومن قبل يعقوب صنوع عام 1912، بينما دافع عن الفصحي بضراوة الكثيرون مثل الرافعي وحافظ إبراهيم، لقد أحدثت اللغة الصحفية بوسطيتها بين العامية والفصحي توازناً مهماً وحافظت علي اللغة العربية من الاندثار. ولن أزايد باسم الدين وأقول أنها لغة القرآن الكريم التي حبانا بها الله سبحانه وتعالي بمفرداته الثرية الرائعة رغم أن هذا واقع صحيح، وليس من باب الغيرة علي لغتي الجميلة، مع الاعتذر للرائع فاروق شوشة صاحب أشهر صوت إذاعي وأشهر برنامج إذاعي لسنوات طويلة باسم « لغتنا الجميلة «، ولكن وبحق لأنها لغة ثرية خفيفة علي الأذن مهذبة للنفس وفي الوقت نفسه فهي لغة تستطيع استيعاب كل العلوم الحديثة، والمحافظة عليها واجب قومي.