طارق حجِّى منذ قرنٍ بالكمالِ والتمامِ بدأت الحربُ العالمية الأولي. وبعد أربع سنواتٍ إنتهت تلك الحربُ ومع نهايةِ الحربِ بدأت القوي المنتصرة في رسمِ خرائطِ حدودِ دولِ الشرق الأوسط وتقسيم هذه الدول فيما بينها.واليوم فإن المشهدَ في يقيني يتكرر ولكن باختلافاتٍ في التفاصيل وليس في الجوهرِ.فمع نهاية الحربِ الباردةِ وتوسع نفوذ أفكار المحافظين الجدد التي تبلورت في سني حكم الرئيس ريجان (1981-1989) طورت الولاياتُالمتحدة صورةً للشرق الأوسط كما تريده وكما تراه مناسباً لمصالحها. ومن ضمن تفاصيل الصورة التي تريدها الولاياتُالمتحدة هي وجود الإسلاميين في الحكمِ إن لم يكن في كلِ ففي معظمِ بلدان الشرق الأوسط، علي ان يكون وصولُ الإسلاميين للحكمِ بعد تفاهماتٍ معهم تضمن عدم رفضهم لمشهدٍ مأمولٍ للمحافظين الجدد وهو مشهد التهويد الكلي لإسرائيل وإعادة بناء الهيكل في القدس في المكان الذي يوجد فيه حالياً كلٌ من المسجدِ الأقصي ومسجد قبة الصخرة، وهو مشهد تنبع جذوره وروحه ودوافع تحقيقه من رؤيةٍ يشترك فيها اليهود وكثيرون من البروتستانت ووفق التصورات التي أجملتُها أعلاه، فإن وصولَ الإخوان لحكم مصَر في منتصف سنة 2012 لم يكن أبداً بمعزل عما يمكن أن نسميه سايكس بيكو الجديدة. ولا أدل علي ذلك من نجاح الإخوان وهم في حكمِ مصَر في إبرام أهم اتفاق هدنة وعدم اعتداء بين حماس وإسرائيل. ولكن التاريخَ يأتي أحياناً بمفاجآتٍ تفوق كل التصوراتِ. ولا شك عندي ان واحدةً من تلك المفاجآت قد تجسدت علي أرض مصر ما بين 30 يونيو و3 يوليو 2013. ولكن الصورةَ تبقي شديدة الخطورة : فهذه المفاجأة التي تجسدت منذ أقل قليلاً من تسعةِ شهورٍ لم ولن تمحو الصورة الكلية أي صورة سايكس بيكو الجديدة. وكل ما في الأمر أنها شكلّت اجهاضاً كبيراً لخطة كانت تبدو (بوصول الإخوان لحكمِ مصَر) قاب قوسين أو أدني من الإكتمال. ويقيني ان مصَر اليوم هي في خضمِ حالةِ حربٍ لا تقل شراسة وضراوة وخطورة وأهمية عن حروب 1948 و1956 و1967 و1973 والقول بأن مصرَ الجديدة محتومٌ عليها أن تخسر تلك الحرب هو قول غير علمي يخالف الحسَ التاريخي إذ أنه يقول بوجود حتميات، وهو أمر مخالف للصوابِ علمياً وتاريخياً. لقد سمع كاتبُ هذه السطور من فم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حوار بينهما في مدينة فالداي شمال غرب موسكو يوم 19 سبتمبر 2013 أن هزيمة مصر (وكان يقصد مصر 30 يونيو / 3 يوليو) تبدأ عندما يعتقد المصريون بحتميةِ إنتصارِ خطة سايكس بيكو الجديدة. وأضيف ان الرئيس بوتين قال لي يومها ان ما حدث في مصرَ وأدي لإسقاط حكم الإخوان بعد 369 يوماً في الحكم هو من غرائبِ وعجائبِ التاريخ، ولكن إكتمال نجاحِه مرهونٌ بثلاثةِ أمورٍ: الأول، وجود قيادة قوية وذات رؤيةٍ صائبةٍ وحازمةٍ وحاسمةٍ وذات موهبةٍ إداريةٍ تنفيذيةٍ كبيرةٍ... والثاني: وجود ظهير شعبي مصري لتلك القيادة... والثالث، وجود ظهير إقليمي من عددٍ من دولِ المنطقة ذات التأثير الفعال واليوم، فإن الصورة الماثلة أمامنا تقول بإحتمالِ تحقق العامل الأول قريباً كما تقول بتوفر العامل الثالث متمثلاً في الظهير الإماراتي / والسعودي / والكويتي لمصر الجديدة مصر 30 يونيو / 3 يوليه 2013 ولكن المشكلة تتعلق بالعامل الثاني وأَعني التفتت والإنقسام والتشرذم في موقفِ النخبِ الثقافيةِ والسياسيةِ في مصَر. وهو واقعٌ يرجع في أغلب الحالات لعدمِ فهم طبيعةِ المرحلةِ التي تمر بها مصُر. ولكنه في حالاتٍ أخري يرجع لوجود مصالحٍ شخصيةٍ (مالية في معظم الأحيان) للبعض في تفتيتِ وتقسيمِ وشرذمةِ الظهير الشعبي وإذا كان أي نصحٍ لأصحابِ المصالح لن يكون مجدياً، فإن النصحَ واجبٌ (ومحتمل الجدوي) لأولئك الذين لا يرون (بحسن نية) ان تشرذم الظهير الشعبي في المرحلة الحالية وفي المراحل القادمة إنما يصب في مصلحةِ أصحابِ مشروع سايكس بيكو الجديد. بمعني أَن وجودَ القيادةِ المناسبةِ للحظةِ التاريخيةِ الراهنةِ (وأعتقد ان هذا سيتحقق قريباً جداً) وكذلك وجود الظهير الإقليمي (وهو متحقق بشكلٍ جيدٍ) لن يكون بوسعهما تحقيق نجاة مصرَ من عواقب نجاح مشروع سايكس بيكو الجديد بدون إستفاقةِ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ النخبِ الثقافيةِ والسياسيةِ في مصرَ اليوم وإدراكهم ان حالة التشرذم الموجودة حالياً هي خدمة كبيرة لمشروع سايكس بيكو الجديد وان الإنشغال بتفاصيل صغيرة عديدة هو أمر هزلي، إذ ان الواجب يحتم الإنشغال بالصورة الكلية أي بنجاح مصرَ في النجاةِ من مخطط الشرق الأوسط الجديد وإرسائها لمناخٍ داخلي آمن ثم نجاحِها في تحريكِ عجلةِ التنميةِ