التعليم العالي: تقدم 28 جامعة في تصنيف التايمز العالمي للجامعات الناشئة 2024    طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان العلوم    المجلس الأعلى للحوار الإجتماعي يستكمل جلساته برئاسة وزير العمل    «الصحفيين» تدعو قيادات الصحف للاجتماع التحضيري للمؤتمر العام الثلاثاء المقبل    مفتى الجمهورية: الالتزام بالقوانين المنظمة للحج ضمن شرط الاستطاعة ويجب عدم مخالفتها    برلماني عن قانون إدارة المنشآت الصحية: من فشل في الإدارة لن يكون كفء في الرقابة    توريد 200 ألف طن من محصول القمح لصوامع البحيرة    وصول 96 ألف طن قمح على متن سفينتين لصالح هيئة السلع التموينية والقطاع الخاص    مؤتمر أخبار اليوم العقاري | أحمد العتال: أسعار العقارات لن تنخفض خلال الفترة القادمة    الرئيس السيسي يهنئ نظيره التشادي بفوزه في الانتخابات الرئاسية    محمد حمزة يهزم لاعب التشيك ويضمن ميدالية لمصر في بطولة الجائزة الكبرى لسلاح الشيش    وسام أبوعلي: سنقاتل للفوز بدوري أبطال أفريقيا    مصدر من نادي إينتراخت فرانكفورت يكشف ل في الجول مصير عملية مرموش الجراحية    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    إصابة طالبة بإعدادية الأزهر بالزائدة الدودية في الشرقية    أمن الجيزة يضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء داخل مدرسة بفيصل    متى تبدأ العشر الأوائل من ذي الحجة 1445 وما الأعمال المستحبة بها؟    السجن 3 سنوات ل حارس عقار و2 آخرين بتهمة «السرقة بالإكراه» في منطقة التجمع الخامس    «دراما الشحاذين» يستهل فعاليات المهرجان الختامي لنوادي المسرح ال31    خفة ظله «سر» شهرته.. ذكرى وفاة الفنان حسن مصطفى    تعرف على النجم الأقل جماهيرية في شباك تذاكر أفلام السينما السبت    «القومي للبحوث» يوجه للأمهات بعض النصائح للتعامل مع الجدري المائي    نصائح مهمة من «الصحة» بسبب الطقس الحار.. تجنبوا الخروج واغلقوا النوافذ    الوقوف فى طابور وحفر المراحيض وصنع الخيام..اقتصاد الحرب يظهر فى غزة    ولي العهد السعودى يبحث مع مستشار الأمن القومى الأمريكى الأوضاع فى غزة    أوكرانيا: القوات الجوية تسقط 37 طائرة روسية دون طيار    المصرين الأحرار عن غزة: الأطراف المتصارعة جميعها خاسرة ولن يخرج منها فائز في هذه الحرب    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    إصابة 4 مواطنين فى مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    رئيس النواب: القطاع الخاص لن يؤثر على تقديم الخدمة للمواطن أو سعرها    رئيس جهاز السويس الجديدة تستقبل ممثلي القرى السياحية غرب سوميد    وزير المالية: حريصون على توفير تمويلات ميسرة من شركاء التنمية للقطاع الخاص    وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق الدورة الثانية لملتقى تمكين المرأة بالفن    عماد الدين حسين: تعطيل دخول المساعدات الإنسانية لغزة فضح الرواية الإسرائيلية    توقعات الأبراج 2024.. «الثور والجوزاء والسرطان» فرص لتكوين العلاقات العاطفية الناجحة    وزيرة التضامن تلتقي بنظيرها البحريني لبحث موضوعات ريادة الأعمال الاجتماعية    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    ترامب ينتقد بايدن مجددًا: «لا يستطيع أن يجمع جملتين معًا»    صور| باسم سمرة ينشر كواليس فيلمه الجديد «اللعب مع العيال»    وزير الصحة: التأمين الصحي الشامل "مشروع الدولة المصرية"    طريقة عمل الكمونية المصرية.. وصفة مناسبة للعزومات    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    الأمور تشتعل.. التفاصيل الكاملة للخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    رئيس النواب يفتتح أعمال الجلسة العامة    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    أسعار الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024    كيف تستمتع بنوم عميق في الطقس الحار؟    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    تعليق غريب من مدرب الأهلي السابق بعد التعادل مع الترجي التونسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
هاتف المغرب
نشر في أخبار اليوم يوم 13 - 08 - 2013

المغرب من أغزر منابع تكويني الروحي. موسيقاه، فنونه، تنوع طبيعته، نزلته عام 9791، ومنذ ذلك الحين لم أكف
من أكثر البلاد تأثيرا في مصر المغرب، المغرب يعني بالنسبة لنا نحن المصريين المكان البعيد، النائي، ولذلك يرتبط بالسحر والرجال الصالحين، فالصوفي الذي يعتقد فيه الناس لابد أن يجيء من بعيد، ولذلك يكثر في كتب التراجم التي تؤرخ لرجال التصوف هذه العبارة »وفيه جاء من المغرب..«، وفي كتب التراجم المغربية مثل »التشوف إلي أهل التصوف« للتادلي نقرأ هذه العبارة »وفيه جاء من المشرق..« أهي صدفة أن جميع الشيوخ والأقطاب الكبار في مصر وفدوا عليها من المغرب سيدي أحمد البدوي، وضريحه في طنطا، في قلب الدلتا، جاء من فاس زمن الحروب الصليبية واشتهر عنه تحريره لأسري المسلمين في الجزر الصليبية بالبحر الأبيض.
سيدي أحمد عبدالرحيم القنائي السبتي، أشهر الشيوخ بالصعيد جاء من مدينة سبتة بالمغرب، وضريحه في مدينة قنا مقصد للمصريين من أهل الجنوب والشمال.
في الإسكندرية الشيخ المرسي أبو العباس (من مرسية بالأندلس) والشيخ الشاطبي، وفي الطريق القديم للحج الذي كان يسلكه الحجاج من أقصي المغرب إلي الحجاز عبر صحراء البحر الأحمر إلي ميناء عيذاب، ثم عبور البحر إلي جدة، ثم إلي مكة. في هذا الطريق توفي الشيخ أبوالحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية وهو من أبناء المغرب، في طفولتي التي أمضيتها بقرية جهينة في عمق الصعيد، أذكر ظهور المغربي الذي كان يصيح:
»افتح الكتاب..«.
رجل طويل كان يرتدي جلبابا له برنس يمكن أن يغطي به رأسه، وهذا زي اشتهر به المغاربة، يحمل بيده مخطوطا قديما يحتوي علي أشكال سحرية ولغة غامضة، منه يمكنه أن يقرأ الطالع، وأن يتنبأ بالآتي، وأن يصف علاجا لمن أدركتهم العلة، كان المغربي يعني السر والأسرار، والصلاح والتقوي، وأذكر حكايات عديدة سمعتها في الصعيد عن مغاربة يظهرون في القري، كل منهم بمفرده، جاء مشيا علي قدميه من أقصي المغرب قاصدا الحج إلي بيت الله الحرام، وشرط الحج المشقة، وكانت العادة أن تقدم واجبات الضيافة إلي هؤلاء الحجاج ويحاطون بالعناية والكرم، ثم يمضي كل منهم قاصدا مكة، بعضهم يعود إلي بلاده، وبعضهم يقضي في الطريق، وآخرون تتبدل حياتهم عندما يلتقون بمن يبدلون مجريات أمورهم، ولا يبدل مصير الإنسان في الغربة إلا امرأة، عندما يلتقي بأنثي فيقترن بها ويستقر، الغريب انني عندما قصدت الديار المقدسة عام اثنين وتسعين من القرن الماضي، التقيت بحجاج أفارقة ومغاربة خرجوا من ديارهم قبل عام كامل، بعضهم جاء من أفريقيا، من أقصي الغرب، من نيجيريا وغانا، نذروا علي أنفسهم الحج مشيا علي أقدامهم، تماما كما كان الأسلاف يفعلون في القرون الخوالي طلبا للثواب ومجاهدة للنفس، إلا ان الرحلة التي أقدم عليها هؤلاء المعاصرون لنا أخطر وأكثر مشقة، في الماضي قبل اختراع الطائرات والسفن السريعة كانت الطرق ممهدة لمثل هذه الرحلات، والمحطات جاهزة علي الطرق لاستقبال المسافرين، سواء كانت محطات البريد، أو الأربطة والزوايا، كذلك لم تكن هناك نقاط جمرك أو تفتيش أو احتياطات أمنية أو خلافات بين الدول، هذا الحاج القادم من نيجيريا مر بمناطق العطش والجفاف، وبمناطق حروب أهلية وأوبئة، أي ان المخاطرة في رحلته أضعاف المخاطرة الكامنة في رحلة أجداده، وحتي الآن مازال هناك من يقدم علي الحج إلي بيت الله سيرا علي قدميه.
أذكر في طفولتي وشبابي الحافلات المغربية والجزائرية والتونسية والليبية التي كانت تقل الحجاج، كنت أراها في ميدان مولانا وسيدنا الحسين عليه السلام، كانت تحمل العلامات المرورية الخاصة بدول المغرب، وأحيانا أعلام تلك الأقطار، وكان مسجد وضريح مولانا مقصدا لهم، كذلك الأزهر الذي بناه المغاربة الذين صحبوا المعز لدين الله عند دخوله مصر من المغرب وتأسيسه القاهرة مقر الخلافة الفاطمية والتي أصبحت امبراطورية تحمي البحرين والحرمين، واستمرت ما يقرب من قرنين من الزمان، تركت خلالهما أثرا عميقا علي الحياة في مصر، ماتزال آثاره في الحياة الاجتماعية باقية حتي الآن، وربما يكمن هذا وراء ذلك التشابه القوي الذي أشعر به وأرصده بين المغاربة والمصريين. استمرت هذه الحافلات التي كانت تقطع الطريق برا حتي عام تسعة وستين عندما قامت ثورة الفاتح من سبتمبر، فانقطع الطريق البري للحج عبر مصر لأسباب عديدة لا داعي للخوض فيها.
كانت الرحلة في الماضي قبل الحافلات تستغرق عاما كاملا، ستة شهور للذهاب، وستة للعودة من مكة، هذا بالنسبة للحجاج العاديين، ولكن بالنسبة للعلماء كانت الرحلة جزءا من تكوينهم الروحي، لذلك نلاحظ أن معظم علماء الأندلس والمغرب كانوا يبدأون رحلتهم في المكان كجزء من تكوينهم العلمي والروحي، وفي سيرة حياة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي نلحظ هذه التجربة الروحية المرتبطة بالسفر والتي تستغرق عدة سنوات، ولم يكتف الشيخ الأكبر بالوصول إلي مكة، إنما واصل رحيله إلي دمشق، ثم إلي قونية بتركيا، وكثيرا ما أفكر في هذا الترحال، كيف كان ركب المتنبي؟ كيف كان ركب ابن عربي؟ كيف كان ركب ابن خلدون؟، لم تتوفر لنا روايات ذاتية عن أحوالهم، كيف كانوا يحملون كتبهم أثناء الترحال، وما هي مصادر الانفاق؟، غير أننا نجد في رحلة ابن بطوطة الشهيرة بعض الاشارات إلي الأحوال الخاصة الداخلية له، وكثيرا ما أتوقف عند وصفه لاحساسه بالغربة بعد خروجه من طنجة ووصوله إلي مدينة تونس، يقول:
»إلي أن وصلنا مدينة تونس، فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبدالله الزبيدي، ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبدالله النفراوي، فأقبل بعضهم علي بعض بالسؤال والسلام، ولم يسلم عليّ أحد لعدم معرفتي بهم، فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة، واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجاج، فأقبل عليّ بالسلام والايناس، ومازال يؤنسني بحديثه حتي دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين..« عندما أسافر إلي المغرب لا أشعر بالوحشة مثل ابن بطوطة، فمنذ نزولي أول مرة عام تسعة وسبعين ولي أصدقاء لا حصر لهم، قليل أعرفهم معرفة شخصية حميمة، وكثيرون من القراء الذين وصلتهم روايتي »الزيني بركات« واكتشفوها في فترة مبكرة، والمغاربة عيونهم علي المشرق عامة ومصر والشام خاصة، يتتبعون ما يصدر، ويتنبهون إلي المواهب الجديدة، وكثير من الأعمال الأدبية الجديدة تلقي من نقاد المغرب وجامعاتها ما لا تلقاه في بلادها.
فاس
في أول زيارة لي قصدت مدينة فاس، وكان ذلك خير مفتتح لصلتي بالمغرب، إذ تعتبر فاس بمثابة المركز الروحي للمغرب، ومركز الاشعاع فيها مدرسة القرويين التي تقع في القلب من المدينة، فكل الدروب تؤدي إليها، وبمجرد عبوري إلي داخلها يدخلني شعور عميق بالتأثر، فأنفاس الراحلين من العلماء والصالحين ماتزال تتردد هنا، وخلال زياراتي إلي المغرب التي تكررت علي مدي واحد وعشرين سنة أقمت في فاس أربع مرات، كان آخرها العام الماضي عندما حضرت مهرجان الموسيقي الأندلسية.
لكل مدينة في المغرب حالة خاصة تكفل لها الفرادة والخصوصية، مراكش تقف علي حافة الصحراء الأفريقية الكبري، تبدو غامضة بلونها الوردي الذي يوحد أثرياءها بفقرائها، وساحة الفن التي تعج بالفنون والأنشطة المختلفة من علاج البشر إلي علاج الحيوانات والطيور إلي الحواة والسحرة والمنشدين والخطباء، كذلك بأسوارها الممتدة التي نزور فيها السبعة رجال، وهم من كبار مشايخ الصوفية الذين يحرسون المدينة، وفي ذروة القيظ الصيفي حيث تتجاوز الحرارة خمسين درجة تبدو مراكش وكأنها تقف علي درجة الحلم والواقع، حيث جبال الأطلس في الأفق تغطيها الثلوج، ثلوج في الأعالي، ولهب في السهل، منظر فريد لم أعرف له مثيلا في العالم كله.
أما مدينة شوفشاون في الشمال فتبدو معلقة كالحلم بأندلسيتها الكامنة، إذ ماتزال تحافظ علي الطابع الأندلسي المنمنم وتكوين المدينة الأندلسية نتيجة إقامة عدد كبير من الأسر المهاجرة إلي المغرب فيها، في مدينة تطوان الساحلية الجميلة ماتزال تقاليد الأندلس تحيا وتسعي، في الموسيقي، حيث توجد في المدينة أشهر الأجواق المغربية، جوقة سيدي محمد الوكيلي، ويوجد فيها واحدمن أعلام الموسيقي وهو محمد التمسماني، أما المطرب صادق الشقارة فظاهرة فريدة في الغناء المغربي، يجمع في أدائه بين خصائص الفلامنكو ومميزات الأداء الأندلسي القديم، أما طنجة فماتزال تحتفظ بطابع المدينة المفتوحة، هنا تتعدد الأجناس فيها، قصدها عدد من الأدباء العالميين، مثل جان جنيه، وتنيسي ويليامز وجون فاولز، عاشوا بها، وأقاموا وأبدعوا، لكل منهم آثاره هنا، وحكاياته التي تبدو مثيرة خاصة إذا أصغينا إليها من الأديب محمد شكري الذي لا يعد من علامات طنجة فقط إنما المغرب كله. من طنجة الساحلية إلي وادي زم الذي يقع علي أول الطريق إلي الأطلسي الصغير، حيث تعليق القبائل العربية إلي جانب القبائل البربرية، الأطلس الكبير يبدأ بعد مراكش، سلسلة من الجبال الوعرة أتيح لي أن أرحل عبرها وأري عالما متنوعا خصبا من البشر والثقافة والعادات، ان المغرب ليبدو ثريا جدا بمحتواه الإنساني والثقافي، الجنوب مغاير تماما للشمال، الساحل مختلف عن الداخل، للجهاد تاريخ طويل في المغرب، فمنذ زوال المسلمين من الأندلس، وأوروبا تستهدف المغرب، غير أن فرسانه الشجعان هزموا البرتغاليين في موقعة وادي المخازن الشهيرة في القرن الثامن عشر والتي قتل فيها ملك البرتغال، هذه الموقعة كان لها أثرها في المحيط الهندي، بعد انكسار البرتغاليين في المغرب الأقصي خف وجودهم في المشرق وتهديدهم لسلطنة عمان التي عانت منهم كثيرا، خاصة بعد اكتشافهم طريق رأس الرجاء الصالح.
كثيرا ما كنت أتأمل أسوار المدن المطلة علي المحيط، مثل الرباط، والدار البيضاء، وأصيلة، أعجب للمدن التي تدير ظهرها للبحر، لا تنفتح عليه. إنما تواجهه بأسوار عالية ونوافذ ضيقة، وعندما عرفت التاريخ الدامي للهجمات الأوروبية ضد المغرب، وكلها هجمات كانت تجيء من البحر، لذلك اقترن البحر بالشر بالهجوم المباغت، لذلك كان لابد من الحذر، الآن يختلف الوضع، فالمدن تنفتح علي المحيط، والمناطق الجديدة تشيد مطلة علي المحيط، ذلك المحيط الذي وقفت أمامه طويلا عندما بلغته أول مرة، وأصبح من عاداتي إذ أصل إلي المغرب ان أمضي عند لانهائيته أوقاتا، أتأمل الأفق اللانهائي، وأقارن احساسي بالبحر وبشعوري أمام هذا المدي الهائل من الماء، كأنني ذلك الإنسان العربي من أجدادي الذي كان يسميه بحر الظلمات عندما كان الماء ممتدا إلي ما لا نهاية ولم يعرف القوم بعد، ان هذا المحيط الأزرق إذا طال الابحار فيه غربا فلابد أن يصل الإنسان إلي أرض شاسعة، من هذه الوقفة وتلك المشاعر، ولدت روايتي »هاتف المغيب«.
الأتاي
أول ما عرفت الشاي الأخضر في مقهي الفيشاوي القديم بالقاهرة، كان ومازال يقدمه في أوان خاصة، براد مصنع من الصاج المطلي بلون أبيض، وأكواب صغيرة ضيقة الخصر عند المنتصف، لم أرها إلا في هذا المقهي، وعندما سافرت إلي العراق وجدتها منتشرة هناك، وتعرف بالاستكان، ويشرب فيها الشاي، الأحمر والأخضر، كنت أظن الشاي الأحمر نوعا مختلفا عن الأخضر، إلي أن ازدادت معارفي وأدركت ان الشاي الأخضر هو الأساس. وانه الحالة الأقرب إلي طبيعة ذلك النبات الأسيوي الذي عرفته مصر في بداية القرن التاسع عشر بعد أن عرفت القهوة في بداية القرن السادس عشر.
في عام تسعة وسبعين سافرت إلي المغرب، وعرفت الشاي الأخضر في صورة خاصة لم أعرفها إلا في المغرب، حيث يقدم مقترنا بأحب أنواع النبات إلي قلبي، أعني النعناع، النعناع الطازج، الجميل، وبامتزاج الشاي الأخضر بالنعناع يحدث مزيج رائع منعش، خاص، ويوضع فيه مقادير من السكر، ويمكن أن يقدم بدونه، وهذا ما أفضله. يقدم الشاي الأخضر في المغرب في أوعية من الفضة الخالصة أو مطلية بالفضة، نفس المنظر في المقاهي والبيوت الفقيرة، أو البيوت الثرية والفنادق الفاخرة، الشكل واحد والمضمون مختلف.
منذ ذلك الحين همت بالشاي الأخضر كما يقدم في المغرب، وصرت أسعي إليه حتي في أوروبا عندما أسافر إليها وأتردد علي المطاعم المغربية التي أصبحت الآن معروفة عالميا بخصوصية ما تقدمه، وللطعام المغربي حديث يطول. إلا انني أقصر فأتحدث عن الأتاي فقط، والذي يقدمه المغاربة بمهارة، اذ يحتفظ النادل بمسافة بين البراد والكوب الزجاجي الموضوع في قاعدة فضية، وينتج عن بعد المسافة صوت خرير الماء، وفقاقيع بيضاء في الكوب الذي يحرص المغاربة علي ألا يمتلئ إلي الحافة، فقط إلي المنتصف، وعندما كنت أطلب الزيادة، كانت تطالعني نظرات الدهشة والاستغراب سواء كنت في المغرب، أو أي مطعم مغربي في باريس أو امستردام أو روما.
لم تعرف المغرب »الأتاي« إلا في بداية القرن التاسع عشر، وكان استيراده عن طريق إنجلترا، أما السكر فكان المغرب يستورده من فرنسا، وبعد الحرب العالمية الأولي انتشر الشاي في المغرب وأصبح له طقوسه الخاصة، وكان تناوله في البداية مقصورا علي الرجال، ثم أصبح عائليا، بل من مظاهر توحد العائلة، بل ان انتشاره وحد الذوق المغربي والسوق، ولغة التواصل، هذا ما ترصده دراسة علمية جميلة ورائعة قرأتها مؤخرا، صادرة عن كلية الآداب بالرباط، عنوانها »من الشاي إلي الأتاي« تأليف عبدالأحد السبتي وعبدالرحمان لخصاصي. ويتناول كل ما يتعلق بالشاي الأتاي من الناحية المغربية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، تقع الدراسة في خمسمائة صفحة من القطع الكبير، تذكر الدراسة نصا تاريخيا من كتاب »تذكرة الحسنين في وفيات الأعيان وحوادث السنين« للمؤرخ عبدالكريم الفاسي (توفي عام 9981م). يقول فيه إن أول من شرب الأتاي في المغرب هو عم السلطان زيدان بن مولانا اسماعيل وكان الأتاي وأدواته من أثمن الهدايا الملكية إلي زعماء القبائل. ومن هذه الدراسة الفريدة أورد النص التالي لطبيب فرنسي اسمه مارسيه، زار المغرب سنة 2881 ضمن وفد دبلوماسي جاء لمقابلة السلطان الحسن الأول بمراكش، وكتب مذكراته التي وصف فيها طقوس تقديم الأتاي، وأري انها مشابهة جدا لما يجري الآن:
»ثم دخل خادم وفي يديه صينية كبيرة من الفضة، وفوقها أوان رفيعة، برادان، وزنبيل الشاي، وعلبة السكر، والعدد الملائم من الفناجين الصغيرة، وهي مصنوعة من الخزف الرقيق، ومزينة بطريقة مرونقة. وضع الخادم الصينية فوق الأرض أمام رب البيت، فعكف هذا الأخير مباشرة علي تحضير ذلك المشروب المحبوب لدي كل المغاربة، وهذا التحضير عبارة عن فن حقيقي، فبنظرة الخبير، يعمد المضيف إلي تناول المقدار المناسب من الشاي، وآنذاك يأتي الخادم بالماء في مقراج (وعاء) نحاسي كان يغلي منذ لحظة فوق مجمرة بفناء المنزل، وبمجرد أن يملأ البرادان بالماء المغلي، يصب المضيف أحد الفناجين شيئا من المشروب ويذوق منه، وبعدها يتأكد من أن مقدار الشاي مناسب يضع قطعا من السكر في المنقوع، ولا يلبث أن يذوق المشروب مرة ثانية فثالثة ورابعة ان اقتضي الأمر، وبعدما ينتهي من هذه العملية بالشكل المطلوب، يملأ الفناجين، فيقدمها الخادم إلي كل الضيوف واحدا تلو الآخر، ويتذوق كل ضيف مشروبه باستمتاع وتأمل«، بعد تناول الشاي ثلاث مرات، يدخل الخادم وفي يده مرشة كبيرة مملوءة بماء الورد، دار علي جميع الحاضرين، ورش كل واحد وخاصة الفرنسي الذي عومل بعناية خاصة لأنه أجنبي، فبلل وجهه وثيابه بالماء المعطر تماما، ثم دخل رجل آخر بالمبخرة. وهي علي شكل كرة معدنية لها ثقوب، داخلها البخور اذلي يحترق ببطء، ويستنشق كل من الحاضرين الرائحة الطيبة.
بالنسبة لي لا مذاق عندي يعادل الشاي الأتاي المخلوط بالنعناع الطازج، ومن الهدايا التي لا أنساها، هدية شاي أخضر ونعناع مغربي طازج، قطفه صديقي الحميم عبدالقادر الادريسي مدير المكتب الإعلامي لمنظمة الاليكسر التي تتخذ مقرا لها في المغرب. أتاني به في القاهرة طازجا، طريا، بمجرد نزوله من الطائرة في المطار، توجه مباشرة إلي مكتبي في دار أخبار اليوم يحمل الأتاي بيد، والنعناع الأخضر الذي قطفه من حديقته المغربية بيد أخري، قطفه قبل ركوب الطائرة مباشرة، ولعلها المرة الأولي في تاريخ النعناع والأتاي، التي ينتقل فيها من المغرب إلي القاهرة نعناع طازج ويصل عبر هذه المسافة طريا. مبتلا. باعثا علي النشوة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.