ما احوجنا في شهر رمضان المعظم لعلو همتنا في العبادة والإخلاص لنحقق الغاية المرجوة من صيامنا وقيامنا وهي مغفرة الله لنا، وحول هذا يقدم لنا الشيخ محمد اسماعيل المقدم في كتابه"علو الهمة"اراء علماء السلف في هذا الموضوع المهم ، فهو يقدم لنا في البداية عدة تعريفات لعلو الهمة منها: ألا تقف دون الله ولا تتعوض بشيء سواه ولا ترضي بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به بشيء من الحظوظ الفانية، فالهمة العالية علي الهمم كالطائر العالي علي الطيور لا يرضي بمساقطهم ولا تصل اليه الآفات التي تصل اليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات اليهاوكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان، وكمال الإنسان مداره علي أصلين: معرفة الحق من الباطل وإيثار الحق علي الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالي في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وقوة المؤمن في قلبه، وانه يقطع منازل السير الي الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوي في الحقيقة تقوي القلوب، لا تقوي الجوارح، ويعد فساد العلم وكثرة الجهل وراء طلب كثير من الناس الأدني من الأمور وقصد مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا، وبالعكس كلما صح العلم وانتفي الجهل وصحت العزيمة وعظمت الهمة، طلب الإنسان معالي الأمور فبعض الناس همه لقمة يسد بها جوعته وشربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته ، ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال الشاعر "طرفة بن العبد"فقد قيل له:ما أطيب عيش الدنيا؟فقال "مطعم شهي، وملبس دفيء ومركب وطيء"وكثير من الناس همه من دنياه شربة خمر والتمتع بإمراة حسناء وقليل من الناس تنهض همته الي الدفاع عن الخائف المستجير، ومن العجيب - كما يذكر الكتاب - ان هناك تفاوتاً في الهمم بين الحيوانات، فالعنكبوت حين يولد ينسج لنفسه بيتا، ولا يقبل بيت امه، والحية تطلب ما حفر غيرها إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الميته، والصقر لا يقع إلا علي الحي، والأسد لا يأكل البايت، والفيل يتملق حتي يأكل، والخنفساء تطرد فتعود. ولكن علينا ان نوقن كما يسرد الشيخ "المقدم" ان الهمة رزق من الله عز وجل والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ومن حكمته سبحانه ان فاضل بين خلقه في قواهم العملية والعلمية، وكما قال المتنبي:علي قدر اهل العزم تأتي العزائم وتأتي علي قدر الكرام المكارم وقد أجمع عقلاء كل امة علي ان النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة ، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، ولا راحة لمن لا هم له ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل مافيه اهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان ولا قوة إلا بالله، ومن أراد الجنة سلعة الله الغالية لم يلتفت الي لوم لائم ولا عذل عاذل، ومضي يكدح في السعي لها وقال النبي صلي الله عليه وسلم: من خاف ادلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا ان سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"رواه الترمذي. إن كبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه حتي في ندمه، فبينما يندم قليل الهمة لفوات لذاته اويتحسر لفراق شهواته فإن كبير الهمة يتحسر علي ساعة مرت به في الدنيا لا لأنه عصي الله فيها بل لأنه لم يعمرها بذكر الله سبحانه، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا يتحسر أهل الجنة علي شيء إلا ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها"، إن كبير الهمة علي الإطلاق من يتحري الفضائل لا اللذة، ولا لثروة ولا لأستشعار نخوة، وإستعلاء علي الناس بل يتحري مصالح العباد شاكرا بذلك نعمة الله، طالبا به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد وطرق العلاء قليلة الإيناس. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله"الزم طريق الهدي ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين". إن اول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها المؤمن إدراكه مافي الإسلام من قوة الحقيقة التي تكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، ومافي الأراء الباطلة من زيف الباطل وإحتياجها الي عدد كبير من الأفراد يأسر منظرهم كل ساذج فيغتر وينطلي زيف الباطل عليه دون ان يدرك ماهم فيه من الضلال. والملتفت لنعيق الباطل كالظبي "و الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا احس به التفت اليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.