هالة العىسوى علي الفور قفزت إلي ذهني ذكري ساعات حانية قضيتها علي تلك البقعة الرائعة من سيناء حتي فجر الأمس عشنا أياماً كانت أحلك ما عشنا، وأسوأ مما حلمنا به وبما مرَّ علي كوابيسنا. بلغت لحظة الذروة بالفيلم المهين الذي صوّر أبناءنا الجنود المخطوفين بيد أشقائهم في الوطن رافعين ايديهم علي رءوسهم في مشهد أعاد لأذهاننا صورة أسرانا لدي اليهود الصهاينة في 1967. الصورة وحدها عكست أزمة وطن بأكمله أصبح رهينة في يد حفنة من الخارجين علي القانون والمنطق والمواطنة و مبادئ الإنسانية. لن أخوض كثيراً في قراءة الصورة، بل في قراءة مضمون ما بثه الفيلم من عبارات استغاثة تم انتقاؤها بحرفية شديدة ولها مدلولاتها العميقة المفهومة جيداً بين من أملاها وبين من يجب ان يستقبلها. البناء السطحي لعبارات الاستغاثة يبين انها موجهة الي رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، ويشير إلي تهديد ضمني بتعرضهم لمزيد من التعذيب الذي لم يعودوا يحتملونه. أما البناء العميق فيكشف عن رغبة واضحة في إهانة الجيش المصري واستفزاز قائده (انت قاعد في مكتبك واحنا بنتعذب) مقابل استعطاف للرئيس مقرون بلّي ذراع للدولة عبر رسالة مؤداها ان السبيل الوحيد للإفراج عنهم هو الخضوع لمطالب الخاطفين بالحسني يعني دون عنف. مع مغالطة بغيضة في المطالبة بالإفراج عن المعتقلين(!) بينما هم يشيرون الي جناة محكومين بأحكام قضائية. وكان في الاستشهاد بحالة الجندي الإسرائيلي المخطوف جلعاد شاليط أكثر من إشارة تتنافي مع الوطنية، وأخوة الدين الواحد (مصريتنا وطنيتنا حماها الله). الرسالة في النهاية كان مفادها انه لاتفاوض ولا تسليم للرهائن.. فقط استسلام من جانب السلطة المصرية، وإلا..... في علم إدارة الأزمات، ثمة فرع يُعني بالتفاوض. وهو فن أكثر منه علم قائم علي النظريات والأساليب سابقة التجهيز، لأنه يحتاج لمهارات شخصية يتمتع بها المفاوض بخلاف خبرته العلمية ومعرفته الواسعة بعدد من العلوم الأخري المتصلة بمجال التفاوض كالسلوكيات واللغويات والمنطق وله متخصصون مشهورون يستعان بهم في أنحاء العالم. كما انه يحتاج منح المفاوض صلاحيات معينة وإمداده بقاعدة بيانات ومعلومات كافية عن الخلفية الاجتماعية والنفسية والبيئية للخاطف فضلاً عن دوافعه. للتفاوض أصول في كتابه الشائق عن "أسس التفاوض" الذي ترجمه حازم عبد الرحمن يقول المؤلف جيرارد إ. نيرنبرج: "ان احد شروط نجاح التفاوض هو وجود مايمكن التفاوض بشأنه، وهناك موضوعات غير قابلة للتفاوض"، ويضرب مثالاً توضيحياً بقوله: " فأنت لا يمكن ان تتفاوض مثلاً علي بيع ابنك". هذا المثال يضعنا أمام مرآة الحقيقة فهل كان في حالتنا هذه ما يمكن التفاوض عليه أو المقايضة به؟ هل كان من الممكن مقايضة أبنائنا المخطوفين بمجرمين إرهابيين محكوم عليهم بالإعدام او السجن المؤبد؟ ربما كان المجال متاحاً للاستجابة لبعض الطلبات كتحسين ظروف السجون وتحسين المعاملة وتقريب المسافات بين السجون وهو ما حدث بالفعل، لكن المشكلة هي ان الغموض الذي اديرت به الأزمة من البداية وعدم الإفصاح عن مطالب معينة للخاطفين بحيث يمكن تحديد ما يمكن تلبيته أو التفاوض بشأنه ومالا يجوز ان يكون محل نقاش مع الدولة، هذا الغموض هو ما أدي الي تعلية الخاطفين لسقف مطالبهم كلما اجيبوا لأحدها. هنا من المهم أيضاً أن اصطحبك عزيزي القارئ الي بعض الأدبيات التي تناولت"التفاوض لتحرير الرهائن"، وخاصة ما كتبه العالم الأمريكي د. هارڤي شولسبرج الذي يعتبر أبو هذا الفرع من العلوم إذ يلقي الضوء علي اهم شخصيتين في إدارة الأزمة وهما القائد ( صاحب القرار وهو رئيس الدولة) والمفاوض المكلف بتلك المهمة الشاقة فائقة الحساسية التي تتم بينما هناك أرواح بشر علي المحك، وهناك خاطف، يتجول شولسبرج في دوافعه النفسية ويصفه باليأس والبؤس لأنه ضيّق بيديه فرص حل مشكلته ولعب بورقته الأخيرة وهي اختطاف الرهائن. من اهم التكتيكات السياسية التي تساعد في إنجاح عملية تحرير الرهائن ما يطلق عليه الخبراء " الصمت غير المريح" فالصمت الطويل يثير مشاعر القلق لدي الخاطفين وربما يطرح عروضاً لم تكن مطروحة، وتنصح بعض الأدبيات بعدد من السلوكيات الناجعة المطلوبة من المفاوض كأن يتحدث بثقة وبقوة صلاحية وبصوت أعلي من المعتاد خاصة لو كان ذا نبرة هادئة وناعمة من الأساس. حلمك يا شيخ عليمي قلبي مع أهالي سيناء، ومع شيوخ قبائلها المحترمين، فهم يعانون من موقف دقيق. لقد تعلقت الأنظار بهم في انتظار ما يمكن ان يقوموا به لحل الأزمة. هم لا يرضون بما فعله بعض أبناء القبائل الكبري ذات الهيلمان والسطوة، وينددون بما أسموه "بالعنف" لكنهم في المقابل لا يستطيعون إدانتهم بالفم المليان.. معذورون بلا شك. أن تدين فلذة كبدك وتقف له تقوّمه وتعاقبه أمر يحتاج الي قدرة نفسية هائلة وصلابة إيمان واقتياد بسنة رسول الله في إحقاق الحق: »والله لو ان فاطمة سرقت لقطعت يدها"، واستئناس بقوله تعالي: »إنما أموالكم وأولادكم فتنة واللّه عنده أجر عظيم«، وقوله تعالي: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ«. لكن ما قاله الشيخ فرج العليمي عضو اتحاد قبائل سيناء في مداخلته التليفزيونية مع الإعلامية لميس الحديدي كان أشبه بعملية "البسترة" لقلوبنا. لقد اوصلنا الشيخ العليمي الي درجة التبريد القصوي حين استهل مداخلته بإدانة هذا العنف وعملية الاختطاف ساعتها شعرت بالراحة والاطمئنان إلي نعمة وجود مثل هذا الرجل الرشيد، لكنه هوي بنا فجأة الي اقصي درجات التسخين حين انفعل وتهدج صوته وصاح مطالباً الدولة بالنظر الي اوضاع اهالي سيناء مذّكراً بتظلماتهم من التجاهل المتعمد لهم علي مر العقود الفائتة. الي هنا وللرجل الفاضل بعض الحق، لكن حين يتحول التعاطف مع الإبن الي التماس الأعذار له في ارتكاب الجرائم هنا لا بد من وقفة. وحين يتطور الأمر الي خلط الأوراق بما يموه علي الجريمة الشنعاء التي ارتكبها هؤلاء في حق انفسهم وذويهم ووطنهم فنخلط بين مطالب سيناء المزمنة وبين مطالب الخاطفين بالإفراج عن مجرمين ومحكومين لتبرير الجريمة هنا نصبح علي حافة احتراب أهلي واقتتال داخلي لاقدر الله أربأ بضمائر شيوخ قبائل وعواقل سيناء ان تسمح به. نحن نقر بحقوق اهالي سيناء المهدرة ونطالب الدولة "معهم" بضرورة حل الأزمات المتكررة والمزمنة، لكننا نطالبهم في المقابل بالاعتدال في المطالب والترفق بما تمليه مقتضيات الأمن القومي. ونسألهم بكل الحب والمودة والجدية أيضاً: هل انتم فعلا مقتنعون بأن الطريق الصحيح للضغط من اجل تلبية مطالبكم الملحة يأتي بإهانة الدولة وإذلالها وتمزيق الثقة في الجيش المصري وتحقيره؟ إن كانت إجابتكم بلا، فإن الشعب المصري كله ينتظر جهدكم المخلص والجاد والمحايد والاستفادة بنفوذكم غير المنكور لحل الأزمة. الجنة حين تصبح جحيماً رن الإسم في أذني.. كمين "الريسة" .. ذلك الكمين الذي اصطنعه الخاطفون للإيقاع بضحاياهم من جنودنا. علي الفور قفزت الي ذهني ذكري ساعات حانية قضيتها علي تلك البقعة الرائعة من سيناء. من فوق تلك التلة الرشيقة علي شاطئ الريسة بالعريش كنت انظر الي قطعة من جنة الله علي الأرض، هدوء سماوي يسبح بك في ملكوت الرحمن.. فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ..فيها خدر السكينة منطقة بكر كأن بها قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان. سبحان الله. كيف تحولت هذه القطعة من الجنة الي جحيم تسكنه شياطين الإنس تروع الآمنين وتستلب ارواحهم ومصائرهم؟ كنا في رحلة صيفية نظمتها نقابة الصحفيين، قررنا نحن مجموعة الأصدقاء المغامرين التسرب من بقية الفوج لاستكشاف ارض الفيروز، نصحنا العارفون بالذهاب الي الريسة "وابقوا ادعولنا" .. هناك وجدنا صفحة البحرالفيروزية الرقراقة وعددا من المظلات المصنوعة من جريد النخل مع الكرم البدوي الحاتمي في وليمة من السمان المشوي والأهم من كل هذا حالة الرعاية والضيافة والدفء الذي استقبلنا به اهل المكان وشعورنا بأننا رغم الفراغ والفضاء نقضي وقتنا في أمان وكأننا بين أسرنا. أين اختفت هذه الروح؟ وكيف تحولت الريسة من عش آمن الي فخ يصطاد المارين والعابرين ومن ارست بهم مقاديرهم للعمل هناك؟ اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا. فرحة ما قبل الطبع تحية واجبة لخير أجناد الأرض لرجال قواتنا المسلحة ومخابرتنا وشرطتنا الذين استطاعوا بفضل حنكتهم انجاز الانفراجة التي تمت قبل فجر الأمس.. لقد أعادوا لكل المصريين الثقة والاطمئنان علي أمن الوطن . وتحية واجبة أخري لأهالي سيناء الذين اثبتوا أنهم رغم كل الضغوط والمعاناة لم ولن يفرطوا في حق الوطن. الحمد لله انزاحت الغمة سؤال أخير: أين المجرمين الخاطفين وما مصيرهم؟