لا توجد مدينة فاضلة إلا فى جمهورية أفلاطون. لكن هناك مدينة باسلة - حتماً - فى جمهورية مصر، باسلة برغم أنف المتعصبين الجهلاء الذين اختصروا التاريخ كله فى مباراة كرة ومجموعة مجرمين قتلة لا أعرفهم، حتى وإن حملوا رقماً قومياً يقول إنهم يعيشون فى بورسعيد، وأحلم باللحظة التى سأراهم فيها وهم معلقون فى حبل المشنقة، ليس لأنهم أساءوا إلى مدينتى، ولكن لأنهم مجرمون وبلطجية وسفلة منحوا الفرصة لإعلاميين جهلاء لكى يتطاولوا على أبى وأمى وأخى وخالى لمجرد أنهم ينتمون إلى بورسعيد. ما يؤلمنى حقاً أن الناس - أغلب الناس - يصدقون ما يقال فى التليفزيون، مازالوا أسرى لوهم قديم يؤكد أن الشاشات لا تستضيف إلا الكبراء العلماء المثقفين، وأن الأعمدة الصحفية لا تفتح أبوابها إلا لصاحب كلمة الحق التى لا يشوبها ظل باطل. ما يؤذينى حقاً أن الأجيال الجديدة التى لم تعرف عن بورسعيد إلا النادى المصرى والبناطيل الجينز والشامبو ومزيل العرق صدقت أننا بلد المجرمين القتلة التى يستحق أهلها - كل أهلها - الإعدام حرقاً وقتلاً وشنقاً، هؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى كل محافظات مصر يعيشون اليوم على أمل واحد ليس أكثر، أمل لا علاقة له باسم رئيس الجمهورية المقبل وليس له علاقة بتحرير القدس وطرد إسرائيل، أمل واحد عنوانه: القصاص من بورسعيد المجرمة القاتلة. ولهؤلاء الشباب أقول: وأنا معكم ومثلكم أنتظر القصاص، وأنا على ثقة من أن الله سيظهر الحق وينتقم لنا من القتلة، ولكن أرجوكم اقرأوا قليلاً من صفحات التاريخ غير المقررة عليكم فى المدارس وساعتها سوف تعرفون أشياء كثيرة ستجعلكم فخورين بأن هناك مدينة مصرية اسمها بورسعيد تضم آلافاً من البشر ينتمون فى الأصل لكل شبر فى مصر، جاءوا منذ زمن بعيد لكى يحفروا قناة السويس، مات منهم من مات، وعاش منهم من عاش، أصر أغلبهم على قضاء ما تبقى من حياته على ضفاف القناة ليتزوج وينجب وتتكون العائلة المصرية فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس ليكونوا جميعاً خط الدفاع الأول لمصر الذى تصدى لكل الحروب التى خاضتها. وعندما جاء العدوان الثلاثى عام 1956، خطفت بورسعيد الكاميرا من خط القتال وأصبحت حديث العالم خصوصاً بعد نجاح الصحفى العظيم الراحل مصطفى شردى فى تصوير جرائم بريطانيا وفرنسا وتهريبها إلى الراحل مصطفى أمين، لينشرها على العالم أجمع فى 1956، كانت بورسعيد البوتقة التى انصهر فيها الفدائيون المصريون الذين جاءوا إلى المدينة ليشاركوا أهلها مهمة الدفاع عن مصر. فى تلك الأيام الخالدة كانت المرأة البورسعيدية أشد شراسة من الرجل البورسعيدى، حمل الجميع أرواحهم على أكفهم وتصدوا لأسلحة إنجلترا وفرنسا، وعبروا إلى بورفؤاد ليتصدوا لجيش إسرائيل الذى اقتحم سيناء، لم يكن هدفهم هو النصر على ثلاث دول تمتلك كل هذه الأسلحة وهم لا يحملون سوى سكاكين المطبخ وبنادق «حكيم» المتواضعة، لكن الإصرار وحب مصر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها هو الذى جعل كل مواطن بورسعيدى يتحول إلى حائط صد فولاذى يمنع قوى الشر الثلاث من اقتحام مصر. ولأن الإرادة والحب والعزيمة أقوى من الصواريخ والطائرات والمدافع انتصر أبطال مصر البورسعيدية، وتناقلت صحف العالم وإذاعاته أسماء نبيل منصور، أصغر فدائي استشهد فى المعركة، وتناقلوا صور محمد مهران، الفدائى البورسعيدى الذى انتزع الإنجليز عينيه ومازال يعيش حتى الآن شاهداً على ما حدث فى 56، وتناقلت وسائل الإعلام أسماء محمد عسران وعبدالنعم الشاعر وجواد حسنى، هؤلاء هم عينة من آلاف البورسعيدية الذين أنجبوا أبناء هم الذين حاربوا فى حرب الاستنزاف وهم الذين حاربوا فى أكتوبر 73، ولكن هذه المرة ضمن جيش مصر العظيم فى حرب أكتوبر كان خالى العربى أحد جنود الاستطلاع وكان أبى - رحمه الله - أحد جنود المقاومة الذين بقوا فى بورسعيد يمارسون عملهم الأساسى فى هيئة قناة السويس ويتدربون على السلاح فى الوقت نفسه استعداداً للحظة المصير، كل البورسعيدية مثلى، كان أخوالهم وأعمامهم جنوداً على الجبهة، وكان أباؤهم ينتظرون فى بورسعيد، أما نحن الأطفال والصبية فقد تم تهجيرنا إلى محافظات مصر بعيداً عن بيوتنا فى بورسعيد وبورفؤاد، حصلنا على الشهادة الابتدائية والشهادة الإعدادية من مدارس أخرى بعيداً عن بورسعيد وربما لا يحتفظ أغلبنا بتلك الشهادات لهذا السبب، فالشهادة التى تحمل اسم بورسعيد تحمل فى الوقت نفسه نوط شرف لكل من يحملها، هكذا تعلمنا من الآباء والأخوال والأعمام، وهذا ما علمناه لأبنائنا وبناتنا. وما لا يعلمه شباب مصر أن الشخصية البورسعيدية تتعامل مع الميناء والبحر والبحارين والسياح من كل أنحاء الدنيا وذلك أكسبها شيئين عظيمين هما حسن الضيافة وحلو الكلام، فنعشق الغريب ونشعره بأنه فى بيته وهذا ما جعل الكثيرين من أهالى المحافظات المجاورة يستوطن مدينتا بعد أن أصبحت مدينة حرة تجارية. وبمرور الوقت غيروا بطاقاتهم الشخصية لكنهم لم يتغيروا ليصبحوا مثلنا، بل جاءوا إلينا بعاداتهم السيئة وأطماعهم وأخلاقهم، كنا نعرفهم من أول لحظة، لكننا لم نستطع أن نطردهم لأننا لا نجيد قلة الأدب ولا نجيد خوض المعارك لأننا لا نملك سوى اللسان، هؤلاء الوافدون نجحوا فى الإساءة إلينا على اعتبار أن الكثير من زوار بورسعيد لا يستطيعون التفريق بين البورسعيدى «الأورجينال» والبورسعيدى «المضروب»، ليس هذا فقط، بل إننى لا أستطيع أن أنكر أن بعضاً من هؤلاء نجح فى نقل العدوى إلى بعض البورسعيدية الضعفاء الذين ولدوا بعد تجربة المدينة الحرة والمكسب السهل. مع ذلك ظلت الشخصية البورسعيدية بأخلاقها وطبيعتها هى الغالبة وهذا ما تأكد بعد مجزرة مباراة المصرى والأهلى، لقد كنا أول من طالب بالقصاص، وكنت أول من نبه فى التليفزيون إلى أن المسألة أكبر من مباراة كرة، هناك مؤامرة على الثورة المصرية والإنسان المصرى الذدى يحلم بمستقبل أجمل يعوض سنوات المرار التى عاشتها مصر على مدى ثلاثين عاماً مضت، لن أقول إن الأهلى فى عيوننا، ليس لأننى أكره الأهلى، ولكن لأن مصر أهم من الأهلى والزمالك والإسماعيلى والمصرى. تعالوا نترك المجرمين للقضاء. تعالوا نتحد ضد من لا يريدون الخير لمصر. تعالوا نقرأ الأحداث جيداً حتى يأتى «بكرة» الذى نحلم به سريعاً. تعالوا نقول لكل الذين صوروا بورسعيد المدينة وكأنها قطعة من جهنم، وجعلوا البورسعيدية مجرمين مع سبق الإصرار، أرجوكم تعلموا القراءة جيداً حتى تتمكنوا من الكلام والكتابة. أما هؤلاء البورسعيدية الذين يطالبون بالاستقلال ورفع علم آخر لتصبح مدينتهم دولة أخرى مستقلة أقول لهؤلاء: إن حبنا لبورسعيد هو فرع صغير من أصل شجرة حبنا لمصر، نحن لا قيمة لنا بدون مصر العظيمة الحبيبة، مصر ليست الذين شتمونا فى القنوات الفضائية وجردونا من صفاتنا، مصر ليست مشجعاً متعصباً شاء قدر القراء والمشاهدين أن يصبح إعلامياً يمسك بالقلم والميكروفون، مصر هى الروح والقلب والعقل، مصر التى تحتاج إلى البناء من أول وجديد، وهذا لن يحدث طالما تفرغ الناس جميعاً إلى وصمة عار مصرية حدثت فى أعقاب مباراة المصرى والأهلى، لا أعادها الله أبداً. نشر في مجلة الأهرام العربي في 24 مارس 2012 أعاده الله إلينا معافا من رحلة علاجه في ألمانيا