كل شيء في صناعة السينما الفنية العالمية يتم التخطيط له منذ اللحظة التي يوقع فيها المخرج وكاتب السيناريو مع شركة الانتاج, الأمر لا يتوقف علي ميزانية الفيلم وأول يوم التصوير والانتهاء من النسخة فقط بل مع تحديد هذين اليومين يتم تحديد المهرجان الذي سوف يشارك فيه هذا الفيلم او ذاك, وبالتالي فإن الافلام التي تنتهي في نهاية الشتاء او الربيع تعرض علي لجنة اختيار مهرجان فينسيا, والتي تنتهي في الصيف تعرض علي لجنة مهرجان برلين, اما التي تنتهي في الخريف وبداية الشتاء تعرض في لجنة مهرجان كان, غير أن هذه العملية احيانا تتداخل معها بعض العناصر الأخري مثل ميل شركات الانتاج لمهرجان عن آخر او علاقات رئيس المهرجان بشركات الانتاج والتوزيع التي تشارك في كل عام فمثلا. من المعروف ان تاريخ مهرجان كان في العقود الماضية كان مليئا بالأفلام الامريكية الا أنه في الآونة الأخيرة فقدت المسابقة الرسمية للمهرجان مشاركة العديد من مخرجي السينما الامريكية ولا يتصور احد لماذا حدث هذا التباعد بين هذا المهرجان العريق وأضخم صناعة سينمائية في العالم؟ربما يكون السبب في ذلك ان الموقف العدائي من قبل المثقفين الفرنسيين تجاه إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش امتد في بعض الأحيان ومس بعضا من الفنانين والمثقفين الامريكيين خاصة وأن هذا التباعد ظهر بشكل كبير بعد الحروب الشرسة التي خاضتها إدارة بوش في افغانستان والعراق. هذا بدا واضحا من دورة مهرجان كان الحالية التي يشارك فيها الفيلم الامريكي الوحيد لعبة عادلةFAIRGAME في المسابقة الرسمية بينما تفتتح فعاليات المهرجان بفيلم ريدلي سكوت التجاري روبين هود بطولة نجمي هوليوود الاستراليين راسل كرووكيت بلانشيت, هذا بالإضافة إلي أن المسابقة الرسمية في المهرجان هذا العام لم تتجاوز ال18 فيلما وتعللت إدارةمهرجان كان بالأزمة الاقتصادية التي واجهت صناعة السينما لتبرر قلة الأفلام المتنافسة في المسابقة. إلا أن تلك الحجة التي ذكرت لم تكن منطقية إذ ان مهرجان فينسيا في سبتمبر الماضي كان من أكبر الدورات واقواها بعد أن تنافس24 فيلما سينمائيا من العديد من انحاء العالم علي جوائز المهرجان وكان بينها الفيلم المصري المتميز المسافر للمخرج أحمد ماهر, إذ فمن الواضح ان مهرجان كان هوالذي يعاني من ازمة ما, وهي التي تسببت في قلة الأفلام المتنافسة علي السعفة الذهبية, وقد بات واضحا ابتعاد الشركات الامريكية عن المشاركة في المسابقة الرسمية, غير أن إدارة المهرجان ارادت ان تصلح من تلك العلاقة باختيارها للمخرج الامريكي المتميز تيم بيرتون ليرأس لجنة التحكيم في حين أنها اختارت فيلم روبين هود الأمريكي الانتاج ليفتتح به المهرجان, تلك الاختيارات هي محاولات من المهرجان للاقتراب مرة أخري من هوليوود وانتاجها الأضخم في العالم. فيلم الافتتاح هو واحد من عشرات الأفلام في تاريخ السينما التي تناولت حياة البطل الاسطوري روبين هود غير ان ريدلي سكوت اراد ان يرصد القصة الشعبية منذ بدايتها او من المنطقة التي انبهر بها سكوت وجعلته يقدم في عام2005 علي عمل فيلمه الملحمي الضخم( مملكة الجنة)KingdomofHeaven والذي قام ببطولته اورلاندو بلوم وجيرمي ايرنز وقام بدور صلاح الدين الممثل السوري غسان مسعود وشارك في الفيلم خالد النبوي,( مملكة الجنة) اراد ان يرصد كيف استعاد صلاح الدين القدس, سعي سكوت لأن يرسخ فكرة التعايش السلمي بين مملكة العرب بقيادة صلاح الدين ومملكة بيت المقدس, وكانت تلك الفكرة ترسخ لأن القدس والمقاطعات التي حولها بسبب الحروب الصليبية طويلة الأمد تحولت من كونها مناطق عربية إلي مقاطعات كوزموبوليتانة تعددت فيها الأعراق يمتلكها امراء اوروبيون, اباؤهم او اجدادهم شاركوا في حروب صليبية سابقة واستولوا علي تلك الأرض, وطبعا الفيلم ببساطة انتقد الصراعات الداخلية التي تسببت في ان يخسر الاوروبيون تلك الجنة وهي القدس, في روبين هوود يبدأ بنقد فكرة الحروب الصليبية اساسا. فالتمهيد للاسطورة الشعبية لروبين هود بدأ من حيث اعتبره سكوت فشلا للحملة الصليبية التي قادها الملك الانجليزي ريتشارد قلب الأسد, وتلك المغامرة التي قام بها الملك الانجليزي تسببت في سنوات عجاف مرت علي انجلترا ودفعت قلب الأسد وجيشه الجرار, بعد أن عاد لأن يغير علي عدد من البلدان الفرنسية ويقوم بنهب قلاعها, روبين لونجسترايد او روبين هو فيما بعد( راسل كرو) هو واحد من رماة جيش ريتشارد وبالتالي فإن تأصيل فكرة الرماية او روح القتال كان منطقيا, ايضا نجد تمهيدا متميزا لشخصيته في أنه لا يستطيع الا ان يقول الحق حتي ولو كان هذا الحق سيودي بحياته, لعل أهم مشهد في الفيلم هو ذلك المشهد الذي يشعر فيه ريتشارد انه يريد شخصا في هذا الجيش يقول الحقيقة وما ان يتجول بين الجنود حتي يعثر علي مبتغاه في روبين لونجسترايد فيسأله عن وجودالبركة الالهية في حملته الصليبية, غير أن روبين لا يستطيع ان يكذب عليه ويقول له أن الجيش فقد البركة منذ مذبحة عكا التي ارتكبوها بقتل المدنيين والنساء والأطفال, وكانت نتيجة الصراحة تلك ان وضع هو وزملاؤه الثلاثة في الأغلال. تطور الأحداث في بناء السيناريو يتحرك من خلال شخص واحد وهو روتين هود نفسه فالفيلم يتناول تلك المعارك التي يخوضها روبين من ضمن جيش ريتشارد قلب الأسد, إلي ان يدفع به القدر كما في الملاحم القديمة, للخوض في تجربة انسانية درامية, فهو يقرر الهرب مع رفاقه بعد أن يعرف ان الملك ريتشارد قتل أثناء الهجوم علي قلعة فرنسية, التفصيلة الدرامية المتميزة هي وجوده في مكان الكمين الذي يقوم به الخائن جودفوي( مارك سترونج) مع بعض من جنود فرنسيين بهدف قتل ريتشارد لكنهم بعد أن يقتلوا كل الحراس يكتشفون ان القافلة الصغيرة التي مرت من الغابة لم يكن فيها ريتشارد انما القافلة تحمل فقط تاجه بهدف توصيله لولي العهد الأمير جون وتتويجه, هنا يتحرك روبين وينقذ التاج من يد الفرنسيين والخائن لينقلها إلي لندن. المشاهد العادي ينتظر اكتمال الأسطورة التي تجعل من روبين هود زعيما شعبيا يسطو علي كبار رجال الدولة الظالمين ليمنح الفقراء اموالا قد سلبت منهم في السابق, غير ان ريدلي سكوت لم يكن يهدف لتدعيم تلك الفكرة الاستحلالية في الأسطورة الشهيرة انما كان هدفه اعمق من ذلك وهو ان يقدم لنا الفكرة الأولي عن الدستور في انجلترا وإقامة دولة القانون هذا من خلال الكشف عن سر والد روبين الرجل الذي اعدم قبل أن يوافق علي مشروعه القانوني الذي يتحكم في العلاقة بين المقاطعات الانجليزية واهلها بسلطة الملك في لندن, والفترة التي بدأت فيها التحول عن فكرة سلطة الملك الإلهية يعيد السيناريو تلك التجربة التي قام بها والد روبين بعد ان يكتشف الملك جون ان الامارات الشمالية انقلبت عليه وان القوات الفرنسية علي الأبواب وعليه ان يوحد الانجليز من اجل مواجهة الفرنسيين. الفيلم ينتهي بالخدعة التي تخلق اسطورة روبين هوود اذ ان الملك جون يتراجع عن تعهده بإقامة دولة القانون ويعتبر سلطته من عند الله وبالتالي فلا يحق لاي شخص ان ينتقص منها, ثم يتلو قرارا يجعل روبين لونجسترايد خارجا عن القانون ويهدر دمه ويجعله مطاردا. روبين هود علي الرغم من ضخامة الانتاج إلا أنه لم ير لأن يكون فيلم افتتاح احد أهم المهرجانات السينمائية في العالم, بعد أن شاهدته استغرقت وقتا طويلا في معرفة قيمة الفيلم الفنية التي تستدعي ان يوضع في هذه المكانة المرموقة, فاختيار فيلم لافتتاح مهرجان مثل كان يعد المكانة الأدبية الثانية بعد المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان, من المؤكد انه لا يستطيع أحد ان ينتقص من مكانة مخرج مثل ريدلي سكوت في السينما العالمية, واسهاماته المختلفة والمتميزة, ومن المؤكد ان هناك مجهودا ضخما بذل في اخراج المعارك والتحكم في المجاميع, إلا أن الفيلم يفتقد لعدة اشياء منها العمق في بناء الشخصية الرئيسية ايضا تركيب السيناريو المبني علي العديد من الصدف اضعف الدراما في الفيلم.. اما التمثيل فهو عنصر اخفاق شديد, فعلي الرغم من كون رسل كرو وكيت بلانشيت من نجوم الصفوف الأولي في هوليوود وهما من الحاصلين علي اوسكار الا انهما في هذا الفيلم لم يكونا في أفضل حالاتهما, ايضا فاننا نصدم بأداء الممثل اوسكار ازاك الذي قام بدور الملك جون فلم يعرف كيف يقدم الملك الشاب الجديد بصورته السلبية وبدأ الملك في العديد من المراحل وكأنه يعاني من ضعف الذكاء والبلاهة, الفيلم في النهاية لا يبدو انه اختير لافتتاح تلك الدورة من مهرجان كان إلا لكونه فيلما امريكيا ضخما لمخرج بريطاني كبير أما قيمة الفيلم فتبقي محل تساؤل.