شهد أهل العاصمة أمس مشهدا قلما شهد مثله أهالي المشرق, ولم يخطر علي قلب بشر منذ مائة عام, وهو أن تجري مركبات كبيرة تقل المئات من الناس, لا بقوة الخيل, ولا بقوة البخار, بل بالقوة الطبيعية التي تسبب البروق والرعود , بقوة تتولد علي شواطئ النيل من احتراق الفحم وادارة الحديد أمام المغناطيس , ثم تجري علي أسلاك منصوبة في الهواء وقضبان ممدودة في الأرض فتدير عجلات المركبة وتجري علي ما يراد من السرعة.. هذا هو الترماي الكهربائي الذي احتفل أمس بتسييره في العاصمة من بولاق إلي القلعة احتفالا باهراهكذا كتبت جريدة المقطم في1896/8/13, تصف أحداث اليوم الفائت1896/8/12, حين وقع واحد من أخطر الانقلابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المحروسة وهو تسيير ترام بالكهرباء( تخيل!), وليس بقوة الدواب.. وبعد أكثر من نصف قرن, وفي عام1968 نشر الكاتب الراحل محمد سيد كيلاني كتابه ترام القاهرة, وبعد أكثر من أربعين عاما علي الطبعة اليتيمة التي صدرت عن دار الفرجاني, أعادت هيئة قصور الثقافة في سلسلتها ذاكرة الوطن نشر الكتاب في طبعة جديدة بعد أن كانت الطبعة الأولي قد نفدت تماما بطبيعة الحال, وهو أمر يحسب لهذه السلسلة الجديدة ذاكرة الوطن مثلما يحسب لهيئة قصور الثقافة نشاطها المحترم في مجال النشر علي وجه الخصوص. أما الكاتب الكبير الراحل محمد سيد كيلاني فله في عنق المصريين دين ضخم رغم انه غاب عن الذاكرة تماما, ولا نعلم عنه إلا انه ماجستير من كلية الآداب جامعة القاهرة حسبما كتب علي غلاف كتابه ترام القاهرة لكننا نحن المصريين نملك ارثا نادرا تركه لنا الراحل, ففضلا عن الكتاب المشار إليه, أصدر عددا آخر من الكتب المهمة التي لم يلتفت إليها أحد مثل فصول ممتعة و الأدب القبطي تاريخه وأعلامه و شعر طه حسين تأمل!! و حسين كامل فترة مظلمة في تاريخ مصر و في ربوع الأزبكية.. وربما له كتب أخري, إلا أن هذه هي الكتب المعروفة له والأمل في هيئة قصور الثقافة صاحبة السلاسل الشعبية العديدة في استعادة كاتب فذ مثل الاستاذ كيلاني. والحال ان المؤلف كان طرازا خاصا من المؤرخين, ولعل القارئ يكتشف من مجرد عناوين كتبه إلي أي حد كان الرجل متفردا لا يطرق إلا المسكوت عنه, ولا يقتحم إلا ما فات علي الجميع. ففي فصول ممتعة مثلا والذي أتيحت لي قراءته توقف عند لحظات نادرة في التاريخ المعاصر ولم أجد لها إلا اشارات سريعة وربما غامضة لدي المؤرخين النقاة, بينما اهتم في كتابه الآخر الادب القبطي بالمسكوت عنه أيضا, كذلك التفت لجانب في ابداع العميد طه حسين لم يلتفت إليه سواه.. وهكذا في ربوع الازبكية والسلطان حسين كامل لم يلتفت أحد سواه إلي مثل هذه التفاصيل الدقيقة. وفي الترام علي سبيل المثال لم يلجأ المؤلف إلا إلي صحف العصر مثل المقطم والمؤيد والهلال واللواء ومجلات مثل الهداية والمنار والصاعقة والخلاعة.. اعتمد عليها وحدها باعتبارها كانت بالفعل ديوان الحياة لزمانها وأيامها, ولا حاجة إلي مراجع أو كتب التاريخ وعلم الاجتماع أو الاقتصاد بشرط حسن قراءة واستخدام هذه الصحف ويعتبر مؤلفنا منذ سطور كتابه الأولي أن12 أغسطس1896 كان حدا فاصلا في تاريخ المجتمع القاهري, حيث انتقل من البداوة والتأخر إلي عصر الكهرباء: عصر السهر وصالات الغناء والاندية الثقافية والصحافة والمجلات الكبري. أما قبل الترام بأربع سنوات فقط, وطبقا للتقرير الذي أعده ثلاثة مهندسين: فرنسي وألماني وانجليزي للنظر في وضع مشروع مجاري القاهرة, فإن العاصمة كانت في وضع كارثي ليس مقصورا علي بيوت الفقراء, بل وبيوت الاغنياء أيضا, والوضع نفسه في الحدائق مثل الأزبكية, وهناك141 ألف متر مكعب من المجاري سنويا تشحن الأراضي قذارة, وتفسد مياه الآبار التي يستقي منها العديد من الأهالي. كما ينقل المؤلف عن المقطم في1893/7/5 ان العاصمة كانت تعج بالعشش الحقيرة التي تساعد علي نشر الأمراض والاوبئة. مثل عشش البقلي وعشش أخري غيرها في حي الخليفة وشلبي بالرفاعي, وعشش الأوقاف والمشايخ, وقد شغلت حي الدوبارة وعشش الحلواني بالعمري, وعشش علي جانب الترعة البولاقية من مبتداها إلي منتهاهاوغيرها كذلك أوصت لجنة رسمية درست أسباب انتشار الكوليرا بضرورة ردم الخليج المصري والترعة الاسماعيلية والترعة البولاقية. ولنتخيل القاهرة قبل الترام علي هذا النحو, حيث الحمار هو وسيلة انتقال الناس, وكانت للحمير مواقف معينة يذهب إليها الناس, ومن بينها موقف عند فندق شبرد القديم بشارع الجمهورية لخدمة الأجانب. أما عربات الركوب التي تجرها الخيل فكانت للأغنياء, وشركتا سوارس والصبان لنقل الركاب لم تؤسس إلا بعد إنشاء الترام, بينما كان طاعون الخيال الذي يفتك بها بين سنة وأخري منتشرا. هذا بالطبع فضلا عن ان الانتقال كان يتم نهارا, فالعربات كانت بلا مصابيح, والاضاءة في الشوارع كانت بغاز الاستصباح,وهي ضعيفة وفي شوارع قليلة, لذلك كان سكان كل حي يعيشون معزولين تقريبا والتجار وأصحاب الحرف يفتحون محلاتهم بالقرب من أماكن سكناهم.. لكل هذا كان الترام ثورة حقيقية..فبعد عام واحد من تسيير الترا م ردمت الشركة البلجيكية الحاصلة علي امتياز انشاء الترام الخليج المصري, ومدت خطا من السيدة زينب الي غمرة, فضلا عن الخط الاول من القلعة الي بولاق, وخطا أخر من الجيزة الي الهرم, ومن باب الحديد الي ساحل روض الفرج.. وتزايدت الخطوط لتربط أحياء القاهرة ومراكزها التجارية وسرعان ماتغيرت ملامح العاصمة تماما فمثلا أقبل الناس علي التريض واستنشاق النسيم العليل عصاري كل يوم في جهة روض الفرج..وانجلت روابط الأهل والأقارب, ويبس مابين البيوتات فتناكر الاخوان, وتدابر الجار ان وأقفرت المنازل من أنس السمر وألف الناس الجلوس في المنتديات وأصبح المرء في داره خاضرا كالغائب, مقيما كنازح, يعلم من حال البعيد عنه مالم يعلم من حال القريب منه حسبما ورد في المقطم والمؤيد. ولجأ الاستاذ كيلاني الي أيسر الحلول لاستعادة التحولات العاصفة في القاهرة, وهو قراءة صحف تلك الفترة, حيث يورد نصوصا متعارضة ومتناقضة من تعليقات الصحافة لاستعادة التفاصيل ففي الوقت الذي أدي انشاء الترام للخروج من العزلة وتقريب المسافات, تباعد الجيران وابناء الحي الواحد, بل ان جريدة اسمها الشهامة, كتبت في1900/2/13 وانعدمت سيطرة الأب علي ابنه حتي صار لايجسر علي إزهاق عقوقه لو تطرف عن واجباته, أو تأديبه لو أقدم علي أمر يغاير الأداب. وأضافت المؤيد في1907/8/13 وبعد أحد عشر عاما علي انشاء الترام ان المعممين من طلبة الأزهر ودار العلوم يترددون علي المواخير والمراقص, ويتحمسون عند سماع ضربات الاوتار ونغمات الالحان ومع ذلك لم يتركوا مغازلة الغيد الحسان ومعاقرة بنت الحان. وشمرت صحف ذلك العصر عن اكمامها ورفعت عقيرتها ضد الترام وضد شباب العصر الترامي المتهتك, بعد أن خرجت ياللهول المرأة واستطاعت أن تركب الترام في غيبة زوجها وامتشق الاستاذ مصطفي لطفي المنفلوطي قلمه لاعنا شباب العصر الترامي المتشبهين بالنساء حتي أصبح الرجل منهم لاهم له في حياته إلا أن يتجمل في ملبسه ويتكسر في مشيته ويرقق في صوته, ويلون ابتساماته بالوان التصنع والفتور وزاد الطين بلة تحول عربات الركوب الي مواخير صغيرة بعد ان استغني الناس عنها وركبوا الترام, وظهرت في الصحف اعلانات كثيرة عن أدوية تقوية الباه اومعالجة الأمراض الجنسية. وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار الأراضي والمنازل التي يمر بها الترام, وظهرت اعلانات تشبه اعلانات أيامنا في الصحف: شقة تري البحر وأصبح نص الاعلان علي مسافة بعض امتار من خط الترامواي وسرعان ما تألفت في عام1905 شركة بلجيكية لانشاء حي جديد في القري الصحية بواحات عين شمس أو هليوبليس وهكذا ظهر حي مصر الجديدة, وبالتالي توفير سبل المواصلات, له حيث حصلت الشركة ذاتها علي ترخيص بانشاء المترو الذي بدأ تسييره عام1910. هلي هذا النحو يمضي الأستاذ سيد كيلاني راصدا تطور الحركة التجارية والثقافية والفكرية والعمالية والوطنية والفنية والرياضية, كما يخصص فصلا عن الادب الترامي, وفصلا آخر عن شبان العصر الترامي والترام والادب الشعبي, بل النكات والملح المرتبطة بظهور الترام. وأخيرا فإن المثير للدهشة أن كل هذا العالم بتفاصيله ودقائقه أحاط به الكاتب الكبير الراحل علي مدي143 صفحة فقط..وهانحن الآن القراء ننتظر إصدارا جديدا لكنوز الاستاذ كيلاني التي نفدت منذ سنوات بعيدة: السلطان حسين كامل, الأزبكية, الادب القبطي. شعر طه حسين..