حدث في أمريكا في الأول من ديسمبر1955 م, أن صعد رجل أبيض متعجرف إلي الحافلة, وطلب من السيدة السوداء الجالسة في المقعد الأمامي أن تتخلي عن مقعدها. رفضت السيدة فاقتيدت الي قسم الشرطة وقدمت للمحكمة, ودفعت( طبقا للقانون) غرامة قدرها عشرة دولارات( زائد أربعة للمصاريف). هل هذه هي أرض الأحلام, التي يهاجر اليها البشر من كل أنحاء الدنيا بحثا عن الحرية والحياة الكريمة؟ سؤال طرحه مارتن لوثر كينج, وأجابت عنه مسيرة هائلة خرجت في28 أغسطس1963 م لتنادي بالحقوق المدنية, في وسط العاصمة الأمريكية, واشنطن, عند النصب التذكاري لإبراهام لينكولن( الذي ألغي الرق) تحدث كينج أمام مائتي ألف شخص بكل مشاعره وجوارحه عن حلمه بالمساواة ووقف التمييز العنصري, ونادي بالحرية وعدالة التوظيف وحقوق العمل. تحول المكان والزمان الي لحظة محفورة في ضمير الناس وتاريخ الحقوق المدنية, فلقد أخبر الناشط الحقوقي كل الدنيا بالمعاملة غير العادلة التي يلقاها الأمريكيون السود في بلادهم, وتساءل هل يعقل أن يكون ذلك في دولة قامت علي العدل والحرية؟ وأفهم أمريكا كلها أن العنصرية رذيلة والعنف خطيئة, ألم تناد الديانات بالعدل والحرية والمساواة؟ وألهم كينج الأجيال التي لم تولد بعد, حين تساءل هل ما أحلم به بعيد عن الحقيقة والتحقيق؟ هكذا قرع الرجل الحالم أجراس الحرية, فكرر في خطابه عبارة( أنا عندي حلم) ثماني مرات بينما هو يرسم صورة وطن متكامل ومترابط ومتحد, فقال من بين ما قال( أنا عندي حلم أن يأتي يوم يعيش فيه أطفالي الأربعة الصغار في دولة لاينظر فيها أحد إلي لون بشرتهم ولكن إلي مكنون شخصياتهم وسلوكهم وقدراتهم). اضطر الرئيس جونسون في1964 م إلي إلغاء آخر القوانين التي كانت تساند التفرقة العنصرية, وصعد كينج ذو البشرة السوداء الي الحافلة, وجلس في أحد المقاعد الأمامية المكتوب عليها مخصص لأصحاب البشرة البيضاء وحصل كينج في نفس العام علي جائزة نوبل للسلام لمناهضته العنصرية بالطرق السلمية. أقلقت حركة كينج رغم نبذها للعنف المباحث الفيدرالية الأمريكية, وخرجت مظاهرات من البيض الذين يرفضون تغيير الأوضاع ويدافعون عن نمط المعيشة الظالم للأمريكيين السود. وفي لحظة كئيبة من عام1968 م أصابت رصاصة غادرة أطلقها قناص مسجل خطر, وهارب من السجن رقبة كينج, وثار سؤال عن ضلوع الجهات الرسمية في حادث الاغتيال قتلوا الرجل, ولكنهم لم يستطيعوا قتل الحلم الذي نادي به ففي حقبة الستينيات تلك, ولد طفل أسمر آخر اسمه باراك أوباما, لم يع الدنيا بعد, انفصلت أمه عن أبيه الذي عاد من حيث جاء إلي كينيا,فعاني الطفل البعد عن الأب كما عاني التنافر العنصري في المدرسة مع الأقران. شب الفتي الأسمر النابه في رعاية جدته, وشق طريقه في التعليم والجامعة, وانخرط في آلخدمة المجتمعية, وسجل حلمه الخاص, الذي استوحاه من جذوره الملونة بعد زيارة الي كينيا في كتاب رائع صدر في1995 م بعنوان( أحلام من عند أبي قصة عرق وإرث) تحدث عن أصوله الموزعة بين افريقيا وأمريكا شاهد أنماط الحياة المختلفة, وطرق المعيشة المتباينة ولكن لاحظ أن الناس علي الجانبين بشر, لهم نفس المشاعر والأحاسيس, تلك الأحاسيس التي جمعت أمه البيضاء كالحليب بأبيه الأسود كالفحم. كان الكتاب مرهفا وصادقا وصادما وعميقا, فاكتسب صاحبه احتراما وتقديرا, شق بعدها طريقه السياسي, نائبا في الكونجرس, تم قرر الترشح للمنصب الأول في أمريكا( وربما العالم) ودارت منافسة شرسة بينه وبين القائد العسكري الأبيض المخضرم الذي حارب في فيتنام وأسر في الحرب وثار السؤال, هل يمكن أن يتحقق الحلم, وهل يعقل أن يصبح شاب أسمر لم يتجاوز الخمسين عاما, تعود جذوره إلي كينيا, وأبوه مسلم( واسمه حسين) رئيسا لأمريكا؟ وتحقق الحلم بعد طول انتظار, وحكمت أمريكا علي مرشحها بمكنون شخصيته وقدراته, ولم تكترث للون بشرته, اصبح باراك حسين أوباما رئيسا لأمريكا في2008 م اختاره الشعب الأمريكي لأنه نادي بالسلام ونبذ خطاب العنف والبطش, ووعد ببرامج للصحة والاقتصاد والتعليم جاء أوباما الي مصر مهد الحضارة وعاصمة التاريخ, ليتوجه بحديثه إلي أمة الإسلام من قلب جامعة القاهرة فحملت رسالته معاني العلم والتنوير وحصل أوباما علي جائزة نوبل للسلام تقديرا لتوجهه نحو تحقيق التواصل بين الشرق والغرب. أعيد انتخاب أوباما لفترة ثانية في هذا الأسبوع فتأكد الحلم, بعد أربعين عاما من موت الرجل الذي جهر بحمله. نحن أيضا لدينا حلم, نحلم بوطن لكل المصريين, يجدون فيه الحرية والكرامة والعدالة, لا تغتصبه طغمة فاسدة, يعيش أبناؤه متسايون وأحرارا, وعلينا أن ندرك أن طريق التغيير قد يحتاج إلي سنين طويلة, وتضحيات جسيمة, وقد نتعرض لمؤامرات دنيئة, ولكن المهم ألا نفقد القدرة علي الحلم, وألا نتخلي عن الهدف, وألا يخبو الأمل والا نستسلم للصعاب, وقتها سوف يتحقق الحلم, وإن طال الزمن. جامعة الإسكندرية