حفلت حياتنا الأدبية والفكرية في مصر إبان فترة أربعينيات القرن الماضي بأزهي وأروع عصورها... كان إيقاع الحياة هادئا رتيبا يمضي في يسر وسلاسة بلا مشاكل ولا منغصات مما أتاح الفرصة أمام قرائح الشعراء والادباء والمفكرين لكي تصول وتجول في شتي دروب الخيال تاركة لنا رصيدا كبيرا من الأعمال الادبية الراقية التي نعتز بها في أدبنا المعاصر. وحفلت تلك الفترة بطابور طويل من الأساتذة الرواد الذين أثروا ثقافتنا العربية, وكان كل منهم بحق عالما ثريا في ذاته أضاف الكثير للنتاج العربي. ولعل يسر وسهولة إيقاع الحياة في تلك الفترة وصفاء الذهن وراحة البال التي كانت تظلل الجميع قد تمخضت عن مجموعة كبيرة من ظرفاء العصر رسموا البسمة الصادقة علي الشفاه إضافة إلي زادهم الأدبي والفكري *وسط تلك المجموعة المتميزة من الأدباء والمفكرين يأتي اسم عبدالحميد الديب شاعر البؤس الذي عقد مع الفقر والشقاء عقدا أبديا, وتعامل مع الحياة بتهكم وسخرية شديدة رغم أنه كان القاسم المشترك الأعظم لسهرات وندوات كبار الساسة والوزراء والأدباء..! وبلغت به السخرية إلي حد التهكم علي حياته قائلا: وهام بي الأسي والبؤس حتي كأني عبلة والبؤس عنتر كأني حائط كتبوا عليه هنا يا أيها المزنوق..... كان كامل الشناوي يتندر علي عبدالحميد مقدما له قطعة فضية ذات العشرة قروش قائلا له: حضرتها بريزة.. وحضرته الشاعر الكبير عبدالحميد الديب...! وكان عبدالحميد الديب يشارك رفاقه في أمسيات عامرة بحي سيدنا الحسين متناولين عشاءهم الفاخر من الكباب والكفتة والطرب لدي محل كبابجي شهير وكانت المجموعة تضم كامل الشناوي ومحمد محمود باشا وشقيقه حفني محمود وعلي ومصطفي أمين ومحمد التابعي ومحمد الهمشري وآخرين.. وكان الكبابجي صاحب المحل يدرك تماما أن زبائنه هم علية القوم فمنهم الوزير والصحفي والسياسي والشاعر والمفكر ومن ثم يبالغ في إكرامهم مجهزا لهم دائما طاولة مميزة يلتفون حولها. وذات ليلة نادي كامل الشناوي علي الكبابجي قائلا له: هل توجد لديك عروس لشاعرنا الكبير عبدالحميد الديب الذي لم يسبق له الزواج..؟ فكر الرجل مليا وقال بتردد: بصراحة لدي شقيقتي أرملة تمتلك منزلا هنا بحي الحسين. فرد الشناوي: إذن يكون عقد الزواج والدخلة الخميس القادم... لكني أصارحك القول بأن الاستاذ الديب يصاب أحيانا باغماءة وبحالة من النسيان وتلزمه في تلك الحالة خبطة قوية علي رأسه لكي يفيق وتعود له ذاكرته. رد الرجل: اتفقنا... علي بركة الله. ومساء الخميس التالي ذهب الرفاق إلي هناك ليجدوا الحي وقد امتلأ بالزينات والانوار وفرقة حسب الله والموسيقي النحاسية تعزف في المكان, وكان عبدالحميد الديب مرتديا بذلة جديدة احضروها له وطربوشا لامعا, وهناك اقتادوه بالقوة ليجلس إلي جوار عروسه التي يزيد وزنها علي ربع الطن...! وعبثا حاول المسكين التملص منهم, فكلما حاول النهوض يفاجأ بضربة قوية علي رأسه حتي أجبروه علي التوقيع علي عقد الزواج أمام المأذون ثم حملوه بالقوة إلي منزل الزوجية لكي يتم إغلاق الباب عليه مع عروسه مع وقوف حارس ضخم الجثة أمام الباب حتي لا يفلت.. وقضي المسكين قرابة ثلاثة أيام مع عروسه البدينة وهو في غاية التأفف والضجر.. ولم تفلح صواني الفتة والكوارع والممبار في إقناعه بهذه الحياة... وانتهز الديب فرصة فتح الباب فخرج إلي الشارع بحجة شراء فول مدمس بقرش تعريفة وكان يحمل معه سلطانية.. وبرر ذلك لها بأنه قد مل أكل اللحوم والدهون ويود تناول وجبة خفيفة وما أن لامست قدماه الطريق حتي أطلق ساقيه للريح مهرولا إلي مكان مجهول حتي استقر به المقام في حجرته الخاصة بشارع محمد علي... ومضي أسبوع علي تلك الواقعة وهو ينعم بالحرية والتحرر من قيود هذه الزيجة اللعينة. وذات صباح صحا من نومه ونزل إلي الشارع لكي يشتري فولا يتناول به إفطاره حاملا نفس السلطانية فإذا بزوجته تمر من أمامه راكبة إحدي عربات الكارو وما أن رأته حتي صرخت: زوجي.. زوجي فالتف حوله المارة موبخين إياه علي هجر منزل الزوجية وتركه هذه الزوجة المظلومة تعاني الوحدة... وكاد الأمر يصل إلي حد اقتياده لقسم البوليس... فنظر الديب لمن حوله وقال موجها حديثه لزوجته: انتظري.. انتظري... لماذا خرجت من منزلك..؟ فردت عليه: كنت ذاهبا لشراء الفول فقال علي الفور: مازلت حتي هذه اللحظة أبحث عن بائع الفول. أما عمنا كامل الشناوي فقد كان في بداياته حريصا علي ارتداء الزي الأزهري.. العمامة والجبة والقفطان.. وكان يجلس مع الرفاق بهذا الزي... وذات يوم جمعة تجمعوا في قصر محمد محمود باشا وزير الأشغال بقرية الحرانية بالجيزة... وبعد أن تناولوا الغداء جاءت سيدة من نساء القرية قاصدة قصر الباشا لكي تجد وظيفة ميري لولدها... روي لي الاستاذ مصطفي أمين أنه أشار عليها بالاقتراب من هذا الشيخ المعمم لأن سره باتع فإذا بالسيدة تتجه فعلا إلي كامل الشناوي قائلة: بركاتك يا سيدنا الشيخ ولك الحلاوة. فطلب كامل الشناوي من الشاب أن يجلس أمامه ووضع يده علي رأسه متمتما ببعض الآيات القرآنية ثم أمر الشاب بالوقوف قائلا لأمه: النهارده ايه يا حاجة. فردت عليه: الجمعة يا سيدنا الشيخ فقال: ابنك سيعين في وظيفة ميري يوم الأحد المقبل. فانحنت السيدة مقبلة يده... وما إن خرجت حتي طلب الجميع من محمد محمود باشا أن يعينه لديه في وزارة الاشغال حتي يكتمل المقلب. وصباح الأحد التالي بالفعل وصل إلي القرية مندوب الوزارة مسلما الشاب خطاب التعيين..! ويروي الاستاذ مصطفي أمين أن قرية الحرانية انتفضت بكاملها علي هذا الخبر وأن أهل القرية جميعا تيقنوا تماما من بركات هذا الشيخ... ووصل بهم الأمر إلي القدوم إلي دار أخبار اليوم في موكب كبير من السيارات محملين بأقفاص البط والدجاج والأوز والزبدة والفطير المشلتت لتقديمها قربانا لهذا الشيخ المبروك ولكل منهم أمنية يأمل في تحقيقها علي يديه... فهذه تريد عريسا لابنتها.. وذاك يرجو عودة زوجته إليه.. وثالث يرجو الاستدلال علي مكان ابنه التائه..! وبحث مصطفي أمين عن كامل الشناوي لكي يقابل زبائنه فلم يجده... وأخبره أحدهم انه ذهب إلي كازينو بديعة مصابني لكي يروح عن نفسه قليلا... فنزل مصطفي أمين إليهم وأمرهم بالسير خلفه حتي يدلهم علي مكان الشيخ... وهناك وجدوا الشيخ يرقص ويتمايل مع شلة الأنس من الراقصات والبنات الحساسة وسط جو الموسيقي الصاخبة. *أما عمنا عبد العزيز البشري فقد كان فطنا لماحا سريع البديهة إلي حد كبير... كان مدعوا ذات يوم إلي وليمة فاخرة مع جمع من الأصدقاء لدي أحد وجهاء مديرية الشرقية... وبعد أن تناولوا طعامهم قام الشيخ البشري ليغسل يديه, فإذا بأحدهم يسرع إلي عباءة البشري الموضوعة علي المشجب متناولا قطعة طباشير ورسم علي العباءة رأس حمار... وعاد الشيخ البشري ليري هذا الرسم علي عباءته فراح في نوبة طويلة من الضحك قائلا: من منكم مسح وجهه في عباءتي..؟ وذات يوم كان سائرا في الطريق فتقدم منه أحدهم طالبا منه قراءة خطاب يحمله. فرد عليه البشري: أنه لا يجيد القراءة فاستغرب الآخر قائلا: كيف لا تجيد القراءة وأنت تضع علي رأسك عمامة. فخلع البشري عمامته ووضعها علي رأس الرجل قائلا: اتفضل وريني كيف ستقرأ..؟ [email protected]