الجمع العظيم الذي كان مع النبي' صلي الله عليه وسلم' في حجة الوداع, لم يطب للنبي' صلي الله عليه وسلم' أن يدعه سدي, ولم يترك المسلمين الذين احتشدوا وهم عشرات الألوف, ليؤدوا مناسكهم فرادي, ويرجعونافرادي, فأراد النبي' صلي الله عليه وسلم' ألا ينفض هذا التجمع دون استغلال لتقرير قواعد في الإسلام, وهي ليست غريبة عن الصحابة' رضوان الله عليهم', قد خاطبهم بها النبي' صلي الله عليه وسلم' مرات كثيرة وفي مناسبات عديدة, ولكنه أكدها هنا لأهميتها, ولأنه قد لا يراهم بعد عامهم ه أنه' صلي الله عليه وسلم' خطب هذه الخطبة في جمع كبير من الصحابة' رضي الله عنهم' يقدر بعشرات الآلاف, وقد قيل إنه مائة ألف حاج غير النساء والصبيان, ومع ذلك فقد سمعه جميع الحجاج, وهذا فيه علم من أعلام نبوته. أنه' صلي الله عليه وسلم' أكد حرمة المسلم وحريته في حدود الشرع, وأنه لا يحل دمه وماله إلا بسبب يبيح ذلك كما ثبت عنه' صلي الله عليه وسلم' في أحاديث منها قوله عن أبي هريرة, عن النبي' صلي الله عليه وسلم' قال: أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم علي الله, وقوله' صلي الله عليه وسلم': عن أبي هريرة قال' صلي الله عليه وسلم': بحسب أمريئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم علي المسلم حرام دمه, وماله, وعرضه, وبذلك كله يتضح أن أي اعتداء علي أخيك المسلم في ماله أو دمه دون سبب يبيح ذلك, إنما هو من الظلم المحرم الذي توعده الله عز وجل بأقصي أي, وأشد أنواع العذاب الذي لم يذكر علي لسانه الكريم سوي في أيات القتل, قال الله تعالي: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما. يؤكد النبي' صلي الله عليه وسلم' أن كل أمر من أمور الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه' صلي الله عليه وسلم', يعني أنه مرفوض, فكل شيء من أمور الجاهلية مما لم يقره الإسلام فهو باطل, وأمور الجاهلية كثيرة لا تحصي, وقد أكد الله عز وجل في القرآن الكريم ذم الجاهلية في آيات كثيرة, وأتي بها في معرض الذم, مثل قوله تعالي: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية' آل عمران:154', وقوله: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون' المائدة:50', وقوله: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي' الأحزاب:33', وقوله: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية' الفتح:26', وقد جاء ذم أمور الجاهلية في أحاديث كثيرة منها قوله' صلي الله عليه وسلم': من خرج من الطاعة, وفارق الجماعة فمات, مات ميتة جاهلية, ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة, أو يدعو إلي عصبة, أو ينصر عصبة, فقتل, فقتلة جاهلية, ومن خرج علي أمتي, يضرب برها وفاجرها, ولا يتحاشي من مؤمنها, ولا يفي لذي عهد عهده, فليس مني ولست منه. التأكيد من النبي' صلي الله عليه وسلم' لصيانة الدماء وحرمتها, وقد كتب الله القصاص في القتل والجروح, وشرع ذلك لزجر المجرمين عن العدوان, وعندما يعلم المرء أنه لاق حتما المصير الذي يوقعه بغيره, سيتردد في قتل هذا, أو جرح ذاك, وقد قال العرب: من أمن العقوبة أساء الأدب, وقال تعالي: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص...' المائدة:45', وإذا غلب الإنسان طيش فاعتدي, فإن إقامة الحد عليه ستوقع العبرة والرهبة في قلوب الآخرين, قال تعالي: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون' البقرة:179'. تحذير النبي' صلي الله عليه وسلم' من أكل الربا, وإبطال ربا الجاهلية الذي أساسه امهال المعسر مقابل ثمن زائد, سواء أكان يسيرا أم فاحشا, وإن أفظع تعامل منيت به الإنسانية هو الربا الذي اخترعه اليهود وسارت فيه الجاهلية تضرب خيامها, فكم له من ضحايا, وكم خرب من بيوت, وكم جلب من محن وبلايا, وبذلك حذر الله تعالي منه, وجعل أكله كمن يحاربه تعالي, قال تعالي: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله' البقرة:278 279', ومن يتعامل بالربا لا يقوم من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع بالجنون في حال صرعه, كما قال تعالي: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس' البقرة:275'. أكد النبي' صلي الله عليه وسلم' في هذه الخطبة حق المرأة, وأنها شقيقة الرجل, لها شأنها في المجتمع, فهي تمثل نصف البشرية, ثم هي تلد النصف الآخر, فتصير بذلك أمة كاملة. وقد كانت المرأة في الجاهلية تعيسة مهانة في الأسرة والمجتمع, استعبدها الرجال في ذلة وامتهان, إن سألت لا تجاب, وإن احتيج إليها فلأجل السقيا والاحتطاب, فإن ارتفعت قيمتها عند الرجال, فلأجل إبراد غلة الشهوة. وجاء الإسلام بإكرام المرأة ورفع منزلتها, فنزل قوله تعالي: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض' التوبة:71', وجاء قوله تعالي: ولهن مثل الذي علبهن بالمعروف' البقرة:228', وجاء قوله' صلي الله عليه وسلم': استوصوا بالنساء خيرا. وقد حث النبي' صلي الله عليه وسلم' في هذه الخطبة علي مراعاة حق النساء, وبخاصة الزوجات, ودعا إلي الاستيصاء بهن ومعاشرتهن بالمعروف. أكد النبي' صلي الله عليه وسلم' الاعتصام بكتاب الله عز وجل الذي أنزله علي رسوله' صلي الله عليه وسلم', ليخرج الناس من الظلمات إلي النور, وأنزله الله عز وجل شفاء لما في الصدور, وهدي ورحمة للمؤمنين, قال تعالي: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين' يونس:57', وأنزله تعالي للتدبر والعمل به, والاتعاظ, والتذكر, قال تعالي: كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب' ص:29', وقد أنزله الله تعالي ليكون الحاكم في جميع شئون المسلمين ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون' المائدة:44'. ووصية النبي' صلي الله عليه وسلم' في هذه الخطبة بالقرآن يدخل معها الوصية بالسنة, لأن الله تعالي قال في كتابه عن النبي' صلي الله عليه وسلم': وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي' النجم:3 4'.