ولاية الميسيسبي هي مسقط رأس معظم موسيقي الولاياتالمتحدةالأمريكية, موطن الأساطير الأدبية والفنية.. وهي أيضا, مهد حركة الحقوق المدنية وساحتها للحرب الأهلية, ومزارع القطن والغابات. وهي كذلك, جنة المغامرين ومركز علي مدار الساعة للعب والترفيه, علي مدار السنة للمسافرين والسياح من جميع أنحاء العالم, وهي دعوة مفتوحة دائما فهناك مكان في كل واحدة من الشرفات الأمامية للعثور علي الجنوب الحقيقي الخاص بك في ولاية ميسيسيبي. صحيح أنها قد تكون زيارتك الأولي لواحدة من هذه المدن مثل: أكسفورد, جرينوود أو كانتون التي تجسد قلب وروح الثقافة الحقيقية في الجنوب الأمريكي بتعبيراته الفنية والمتنوعة, انها بحق مدن الأضواء الساطعة في الأفق, والتي تستمر في العمل بدون توقف, وتزدحم بالنجوم وأماكن الترفيه. قدرت لي زيارة ولاية ميسيسيبي الأمريكية في النصف الأخير من شهر رمضان المعظم بصحبة فرقة الحرية للفنون الشعبية, في رحلة صادفت العديد من المفارقات والعجائب التي تجب روايتها وقراءتها علي نحو سيفيد القراء والمسئولين علي حد سواء, فقد وصلنا مطار ممفيس الدولي( الحقيقة أن كل مطارات الولاياتالمتحدةالأمريكية دولية من منظورنا هنا في القاهرة) بعد سفر وترانزيت طويل من القاهرة إلي أمستردام ثم ممفيس, استغرق نحو24 ساعة, تخللتها وجبتا الافطار والسحور حيث أصر أعضاء الفرقة الفنية علي الصيام رغم رخصة الأفطار التي أباحها الإسلام للمسافر سفرا طويلا كهذه الرحلة. ولما حطت طائرة الخطوط الملكية الهولندية أرض المطار, اجتهدنا في الخروج من دائرة الجوازات بسرعة, إذ كانت حقائب السفر, إضافة إلي إكسسوارات وملابس الفرقة كثيرة, الأمر الذي تطلب دقة وإتقانا شديدين لنقلها, خاصة( كرسي الفرعون) الذي تمكن من السفر بعد جدال طويل بين مدير الفرقة نصر الدين محمد وموظفي شركة الطيران الذين أحجموا بداية عن شحنه نظرا لكبر حجمه من ناحية, ولعدم درايتهم بضرورة سفره من عدمه من ناحية أخري, ولولا إصرار مدير الفرقة لما تمكن( كرسي الفرعون) من السفر إلي أمريكا. التعليم في بلدنا وبلادهم وبالفعل سافر( كرسي الفرعون) ووصل بالسلامة إلي حيث سيراه الجمهور, غير أنه ليس طول مدة الرحلة هو المشكلة الوحيدة التي واجهتنا, بل كانت رداءة لغتنا الانجليزية واختلاف طريقة نطقها عما هو شائع في افلام السينما الأمريكية مشكلة جديدة, يستحسن ألا يراها البعض كقضية تافهة أو غير ذات بال, فاللغة في ظني, مفتاح العقل والقلب والاحساس, والتي بدونها يشعر المرء وكأنه في ظلام دامس يسمع ولا يري, يري ولا يفهم, يتكلم ولا يتكلم, لأن كل جملة ينطقها لا تعني لمن يسمعها سوي همهمات لا معني لها إلا في ذهن صاحبها. أدركت إدارة المهرجان المشكلة فحلتها بالتنسيق مع أحد الأساتذة المصريين والذي تصادف وجوده في مدينة أكسفورد التي تنظم مهرجان الميسيسيبي للفنون الشعبية, وهو الدكتور والمهندس أحمد مصطفي موسي الأستاذ المساعد بجامعة ميسيسيبي, الذي ذلل كل الصعوبات التي واجهتنا, وكان خير معين لنا ولهم في التواصل والتفاهم والنجاح الذي لاقته الفرقة الفنية في رحلتها تلك. حقا ان الأمم تتقدم أو تختلف في المدارس والجامعات! رمضان والموظفون كانت كل الظروف هنا في مصر تحول دون السفر, لولا تدخل إرادة الله سبحانه وتعالي, حيث كانت وزارة الدكتور الجنزوري لا تزال قائمة كحكومة تسيير أعمال, ووزير الثقافة الحالي الدكتور محمد صابر عرب قد استقال منها نظرا لترشحه لجائزة الدولة التقديرية, وأسندت أعمالها إلي الدكتور محمد إبراهيم إضافة إلي وزارة الآثار, فضلا عن أن شهر رمضان لم يمض منه سوي ثلاثة أيام تقريبا, وفيه يقل العمل ويكثر غياب الموظفين والمسئولين. المهم صدر قرار الوزير محمد إبراهيم بالموافقة علي سفر الوفد, واجتهد الأستاذ( أمير نبيه) مدير إدارة المهرجانات بوزارة الثقافة, في تذليل كل عقبة أو مشكلة من قبيل حجز تذاكر الطيران وبدل السفر المتواضع, وغيرها من الأزمات التي تطرأ من جراء تسلط البيروقراطية المصرية علي رقاب العباد والبلاد. سافرنا شاكرين كل موظفي العلاقات الثقافية الخارجية ورئيسهم السابق حسام نصار والذين يستحقون الشكر والتقدير وأكثر, فما بذلوه في ساعات قليلة يعجز عنه غيرهم في أيام. حلقت بنا الطائرة في ليل القاهرة, مسرعة إلي أمستردام لتقطع المسافة في خمس ساعات تقريبا, لنجد أنفسنا نسرع الخطا حتي ننتهي من إجراءات اللحاق بالطائرة المتجهة إلي أمريكا, ستة عشر فردا يتحركون في طابور منتظم ويرتدون زيا موحدا, المطار مزدحم بالمسافرين من كل الأعراق والقوميات منهم: الأبيض والأصفر والأسود, الجميع يركضون نحو الأماكن المخصصة لرحلاتهم, لا أحد يحتك بك إلا ويعتذر. أما في مطار أمستردام, فحدث ولا حرج, عن محلات الطعام والملابس والالكترونيات الحديثة التي تذهب بالعقل.. إلا أن فارق العملة الكبير بين اليورو والجنيه دفعنا إلي عدم لمس المعروضات, اللهم إلا لمزيد من التنكيت علي حالنا الاقتصادية وما وصل إليه المصريون من فقر. تفتيش ذاتي للمسافر إلي أمريكا أمام بوابة السفر المتجهة إلي أمريكا ننتقل إلي دائرة تفتيش وفحص أخري مجهزة بأحدث الأجهزة في العالم, حيث يأمرك رجل أو امرأة بأن تخلع نعليك, وتضع عنك ما تلبسه, ثم يشير عليك بأن ترفع يديك عاليا, وأن تفتح قدميك وكأنهما رقم ثمانية, أمام هذا الجهاز الذي يقوم كما يقولون بفحص أدق تفاصيل الانسان. تسع ساعات قضيناها بين الأرض والسماء, تقطعها الطائرة من أمستردام إلي ممفيس, لا شيء في الليل سوي النجوم التي تبدو وكأنها عناقيد من اللؤلؤ المضيء, ويمضي الوقت وتظهر الأرض من تحتنا بعيدة و صغيرة جدا, وكلما اقتربنا من الأراضي الأمريكية تتضح الصور شيئا فشيئا. هبوط الطيار رويدا رويدا, وكأنه يقود سيارة مسرعة بحيث لم نشعر بارتطام عجلات الطائرة بالأرض, ولما سكنت ماكينات الطائرة العملاقة, جاءنا صوته عبر الإذاعة الداخلية مهنئنا الركاب بسلامة الوصول. كانت الساعة تشير إلي الخامسة من مساء يوم الأربعاء, هو هو ذات اليوم الذي غادرنا فيه القاهرة فجرا, لا عجب في ذلك مطلقا, إذا علمنا أن فارق التوقيت بين القاهرة وميسيسيبي يبلغ نحو7 ساعات تقريبا, وبعدما أنهينا اجراءات الدخول التي تتميز بالدقة والقسوة أحيانا, تحرك الوفد المصري نحو باب الخروج حيث سنجد في الانتظار شابا طويلا أسود البشرة, يحمل لافتة صغيرة كتب عليها بالانجليزية مصر, ناديت عليه قائلا: نحن من تنتظرهم فهنأنا بسلامة الوصول, وبدأ حديثا قصيرا للتعارف قائلا: اسمي ريكو من إدارة المهرجان.. مرحبا بكم في ممفيس.. سوف نقطع المسافة من المطار إلي مكان إقامتكم في نحو الساعة ونصف الساعة. ورغم سمرته الإفريقية الواضحة, إلا أننا لم نشعر بالدفء المنتظر كأفارقة ينتمون إلي ذات القارة, فقد كان الرجل يؤدي عملا, ولا يرغب في الاقتراب منا أكثر, بعكس ما كنا نريد أو نتوقع!! وصلنا أخيرا, إلي أكسفورد حيث سنقيم, وهي مدينة صغيرة تماما, غير أنها تزدحم بالمطاعم والمحلات التجارية المتطورة كأي مدينة كبيرة, لكنها الأكثر سحرا وجمالا ودفئا إنسانيا تلمسه في الأستاذ الجامعي المرموق هيو سلون وزوجته ماري سلون مديرة المهرجان والرائعة ربيكا, والمهندسين المتطوعين مايك وسام اللذين قادا سيارتي الفورد اللتين تنقلنا بهما عبر شوارع وطرق ولايتي ميسيسيبي وتنيسي. مشاهد وحكايات وأحاسيس, لا تنسي ابدا, مرت مع كلمات الموسيقي الأمريكي الحالم جريج جونسون في ساحةالدون تاون التي, لا تزال مركزا للتجارة والنشاط في أكسفورد. ونحن نمر بالقرب من منزل علي جائزة نوبل ويليام فوكنر, ونلتقط بعض الصور التذكارية بجوار تمثاله الذي يبعد دقائق من جامعة ولاية مسيسيبي وحرمها الجامعي التاريخي. وفي مسجد المدينة نلتقي الدكتور محمود السحلي العالم المصري البارز في مجال الأدوية والذي يفيض نورا وكرما وشوقا إلي ان يري مصر في مكانتها التي تستحقها بين الأمم المتقدمة, وبصحبته شباب مصريين تشغل بالهم قضايا الوطن ومستقبله. بين المناظر الطبيعية الخلابة ومساقط المياه العذبة قضيت خمسة عشر يوما في جنة الميسيسيبي, التي ألهمت مبدعين من أمثال: وليام فوكنر, وجون جريشام ويلي موريس, وغيرهم من الشعراء والكتاب, باعمال لا تزال تأسر الأجيال المختلفة.