أخيرا لحقت تركيا بركب القنوات الأجنبية التي تبث بالعربية, بعد الحرة الأمريكية وفرنسا24, والألمانية والصينية والروسية والكورية وميد الإيطالية, والتليفزيون الهولندي وبي. بي. سي العربية, وتليفزيون العالم الإيراني والقائمة طويلة, في صراع فضائي محتدم علي العقول والقلوب والجيوب العربية, مفتاحه الأول والأقوي الفن والثقافة, أي ما اصطلح علي تسميته بالقوة الناعمة بدلا من القوة الخشنة. لكن الحضور التركي إلي العام العربي لم يبدأ بالبث الفضائي, وإنما عبر الدراما التليفزيونية المدبلجة بالعربية, عبر المسلسل الشهير نور الذي عرض علي قناة إم بي سي عام2008 وأعادت بعض القنوات العربية الأرضية عرضه مرة ثانية, وحقق أعلي نسب مشاهدة في العالم العربي, لدرجة أن بطل الفيلم الممثل التركي كيفانتش تاتليتوج الذي يحمل اسم مهند صار فتي أحلام العديد من الفتيات العربيات. بالتوازي مع عرض هذا المسلسل كانت تركيا تعيد تموضعها في المنطقة العربية, بعد فشل جهودها في الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي, وبحسب رؤية أحمد داود أوغلو الذي صاغ السياسة الخارجية لتركيا قبل ان يصبح وزيرا للخارجية, بدأت أنقرة تعيد رسم علاقاتها في العالم العربي من جديد, فإذا كانت أبواب الاتحاد الأوروبي قد أغلقت فإن إمكان فتح الباب الأوروبي واردة في حال أصبحت تركيا قوة إقليمية فاعلة في العالم العربي, وقادرة علي تنفيذ السياسات الغربية, عبر ذراع شرقي إسلامي. هكذا تعمل الدول التي تريد بناء دور إقليمي لها, فلم تعد القوة العسكرية الخشنة هي مدخل النفوذ في العلاقات الدولية, وإنما حلت محلها أمور اخري أبرزها القوة الاقتصادية, والبشر المؤهلون, والعناصر الثقافية القادرة علي اختراق الشعوب والدول الأخري وخلق حالة من القبول لهذا الوافد الإقليمي الذي يريد بناء نفسه بعناصر مختلفة. وفي الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يتحسس موضع قدميه قبل الدخول إلي العالم العربي الممتلئ بالتناقاضات والمشاكل, كان مسلسل نور يمهد هذه الأرضية الشائكة, حتي حين حضر الساسة الأكراد إلي المنطقة بعد طول غياب, وبعد سنوات من العداء, شملت تقليل حصة سورية وتركيا من المياه, وعدم السماح بمناقشة وضع أراض سورية داخل نطاق الدولة التركية, وبناء علاقات عسكرية واستراتيجية أكثر من مميزة مع إسرائيل, كانت الدراما التركية قد أعادت بناء صورة جديدة لتركيا في العالم العربي. هكذا نجح مسلسل واحد في تغيير صورة تركيا في العالم العربي, ولم يبذل الساسة الأتراك جهودا مضنية للعودة إلي العالم العربي, تماما كما كانت مصر تفعل طوال تاريخها, فالمشروع القومي الناصري لم يكن لينتشر من الخليج إلي المحيط, دون محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وعمر الشريف وكمال الشناوي وعبد الحليم حافظ وأحمد رمزي وأم كلثوم وفاتن حمامة وسعاد حسني, وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين, ومئات من الكتاب والمفكرين والشعراء والممثلين والصحفيين الذين صنعوا صورة مصر ودورها في العالم العربي جنبا إلي جنب, وربما بخطوات أوسع من السياسيين. وحتي يظهر مهند المصري, ونور المصرية, وتعود الدراما التليفزيونية المصرية لتدخل كل بيت, ويصبح خيار المواطن العربي مشاهدة فيلم مصري وليس أمريكيا, ويشدو الناس بأغاني بأصوات مصرية كما كانوا يفعلون بأغاني أم كلثوم وعبد الحليم.. تظل المساحات المصرية في العالم العربي تتقلص لصالح مهند وأردوغان.. وحتي توم كروز!