الجامعة في مختلف بلاد الدنيا هي ملح المجتمعات وقلبها النابض وعقلها المتوهج وبصرها المستشرف, ومن هنا حرصت تلك المجتمعات التي تعرف للجامعات دورها وقدرها, علي احاطتها بكل مايتيح لها ان تعمل بحرية وثقة وكفاءة, فضمنت لها من الاستقلال المالي والاداري عن الة الدولة وحكومتها, مايجعلها بمنأي من تربص المتربصين وجهل الجاهلين, وساعدت بكل ماأوتيت من قوة ومن جهد ومال علي اتقان التكوين المهني والعلمي للباحثين والاساتذة, واطلقت لها العنان لكي تنتقد وتبحث في مشكلات المجتمع وتضع لتلك المشكلات ماتراه من الحلول مستعينة علي ذلك بصرامة المنهج العلمي والبصيرة النافذة والاحاطة بالمجتمعات وتطورها في مختلف بقاع الارض, حتي لو كان ماتقترحه الجامعة من حلول يتعارض مع سياسات للحكومة واجراءات للدولة وفئات متنفذة هنا او هناك. وذلك كله انطلاقا من ان مستقبل الاوطان اهم وابقي من الحكومات الزائلة والسياسات المتغيرة والمصالح المؤقتة. وتأتي اولي ضمانات ذلك الوضع المميز لاساتذة الجامعات من كادرهم الخاص ومرتباتهم المرتفعة التي تتيح لهم التفرغ للعمل ولطلاب العلم, وليس اشق علي نفسي من الحديث عن احوال الاساتذة ومرتباتهم, تلك المرتبات التي اصبحت في حالة مخزية ومذلة, دفعت بالاساتذة الي الهجرة خارج الاوطان, او الهجرة المؤقتة الي بلاد النفط, متنازلين عن كرامتهم وكرامة العلم الذي يحملونه قليلا او كثيرا, وهم يعرفون انهم يسعون الي تلك البلاد وليست هي التي تسعي اليهم ويتنافسون في سبيل الحصول علي التعاقد معها, وقد يسلكون في سبيل الحصول علي هذا التعاقد مسالك بهلوانية لاتليق باقدارهم المفترضة, وانهم سيأتمرون بأوامر ادارية او علمية يأباها الخلق القويم والكرامة المصونة والعلم الحق. وربما اضطروا في بلادهم الي السعي للارتزاق عن طريق اللواذ بالادارة, ادارة الكلية او الجامعة او الوزارة, وممالأتها ونفاقها ودخول معاركها, لتوقي سيفها وجني ذهبها, سفريات ومهمات ومناصب, واعمال القاعدة الوضعية شيلني اشيلك. وقد يضطرون الي ممارسة مهن لاتمت لتخصصهم او للعلم الذي يحملونه بصلة, او قد يضطرون الي اللهاث وراء جنيهات معدودة من مقال هنا او بحث هناك او محاضرة هنالك, ومع هذا كله راح الكثير منهم يسعي في سبيل تأمين العيش الكريم لاسرته الي اتباع اساليب رخيصة مع طلابه تعصف بما ينبغي ان يتوافر للاستاذ من نزاهة الخلق وعزة النفس وترفع عن الاستغلال, كالمغالاة في اسعار الكتب والمذكرات وتعديدها واجبار الطلاب علي شرائها وربما الدروس الخصوصية والتلاعب بالامتحانات. وانا هنا لااناقش تلك الحيل الصغيرة وهذه الاساليب غير الشريفة فهذا ليس موضوعنا الآن, وانا في نفس الوقت لااسعي لاضفاء الشرعية علي تلك المسالك غير الشريفة في الارتزاق والتكسب, وانما اناقش الوضع المادي لاستاذ الجامعة الذي تردي واضمحل, بفعل سياسات الحكومات الجاهلة والنظم الاكثر جهلا, ومن المنطقي اذا اعتدل ميزان الوضع المادي لاستاذ الجامعة ان تضيق نسبة المتلاعبين بينهم, وساعتها سيكون الفاسد منهم كالبقعة السوداء علي الثوب الناصع, مصيره الي الازالة باي سبيل. ولتوضيح المدي الذي انحدرت اليه اوضاع الاساتذة المادية اقارن بين ماكان يتقاضاه استاذ الجامعة في اوائل القرن العشرين واوائل قرننا هذا التعس الواحد والعشرين, تقول الوثائق ان ادارة الجامعة المصرية قد تعاقدت مع الدكتور طه حسين سنة1920 حيث كان قد فرغ توا من بعثته في فرنسا, بمبلغ400( اربعمائة جنيه سنويا), اي انه كان في درجة مدرس لم تكن الدرجات علي هذا الشكل الذي نعيشه المهم انه لم يكن استاذا قديما وخبيرا وانما كان مدرسا حديثا حصل علي الدكتوراة منذ شهور, وعمره يتجاوز الثلاثين عاما بشهور ايضا. اربعمائة جنيه مصري, اي ان مرتبه الشهري كان ثلاثة وثلاثين جنيها, وبحساب الذهب واسعاره كانت تلك الجنيهات تشتري خمسة وثلاثين جنيها ذهبيا, في كل جنيه ثمانية جرامات من الذهب الخالص عيار18, اي انها كانت جميعها تعادل مائتين وثمانين جراما من الذهب, واذا كان سعر الجرام من الذهب اليوم يتجاوز المائة والخمسين جنيها, فمعني ذلك كله ان مرتب الاستاذ كان يتجاوز الاربعين الف جنيه شهريا, باسعار ايامنا هذه, وهكذا كان بامكان طه حسين في مقتبل حياته الجامعية ان يسكن في مصر الجديدة, ويشتري بالقسط سيارة حديثة, ويكتري سائقا وخادما, ويري نفسه بذلك ندا للوزراء والكبراء, ويفرغ باله ووقته للعلم ولطلابه, وللوطن وقضاياه, وللتقدم ومقتضياته. ولااريد ان اواصل الحديث عن تطور مرتبات الاساتذة عبر العقود المختلفة, فهذا ليس حديثا في التاريخ وانما هو حديث الواقع المتردي والالاعيب الرخيصة التي تلجأ اليها ادارة التعليم العالي ووزارته لتطويع الاساتذة بعد افقارهم. هل يعلم القاريء الكريم ان مرتب المعيد لايتجاوز الالف جنيه وهو بعد في مرحلة التكوين المهني يحتاج الي الوقت والمراجع والكثير من نفقات الابحاث والرسائل, بينما لايزيد مرتب مدرس الجامعة عن الالف والخمسمائة جنيه, وهو ايضا المفروض انه في مطلع حياته وحديث عهد بتكوين الاسرة وانجاب الاطفال وقبل نهاية العهد بالعمل الرسمي لايصل مرتب الاستاذ في الخمسينيات من عمره الي ثلاثة الاف جنيه كمرتبي وقد تجاوزت الخامسة والخمسين, اما في نهاية العمر المهني للاستاذ الجامعي فان مرتبه لايصل الي اربعة الاف جنيه, وهو مايعادل واحد علي عشرة من مرتب المدرس الحديث في مطلع القرن العشرين. طبعا قد يقول قائل ان الامر ليس بهذه القتامة والحدة فهناك للاساتذة فسحة في الامتحانات ومكافآت التصحيح والانتداب في التعليم المفتوح او الجامعات الخاصة, نعم هذا حق ولكن الحق ايضا ان البيوت لاتقام علي المكافآت العابرة, كما ان تلك الفسح من الرزق لاتتاح للاساتذة جميعا, وهي من ذلك كله تحتاج الي رضاء الادارة وتسليك الامور معها, كما لايمكن الاحتجاج بمكافآت الجودة تلك المكافآت التي مازالت علي كف عفريت تأتي شهرا وتغيب اشهرا ويضطر فيها الاساتذة الي التوقيع علي غير الواقع من ساعات وانشطة, ويقول لي احد رؤساء اقسام الفلسفة ان قلبه ينفطر وهو يضطر مع زملائه الي هذه الالعاب الصغيرة بحثا عن بضع مئات من الجنيهات, وهو مايؤكد في النهاية ماذهبنا اليه من سعي الادارة ومن وراءها الوزارة لتطويع الاساتذة وبسط هيمنتها علي الجامعة. وانا اتابع مايدور الان من حوار هاديء حينا وعنيف احيانا بين الوزارة والاساتذة الذين قد اضطروا الي الاجتماع في احد نواديهم واعلان مطالبهم كما اضطروا الي اعلان احتجاجهم بالتوقف عن محاضراتهم لبعض الوقت, ومطالبهم لم تكن ابدا مجرد زيادة دخولهم ولتذهب الجامعة الي الجحيم وانما انا اعرف انهم يضعون قضيتهم تلك في مكانها من مجمل مطالبهم لنهضة الجامعة واقالتها من عثرتها, ومن تلك القضايا: كف يد الامن عن الجامعة أساتذة وطلابا وأنشطة,, وإلغاء نظام الترم وكف يد الإداررة عن نوادي هيئات التدريس, وانتخاب العمداء, وضمان استقلال الاستاذ والادارة الجامعية, ماليا واداريا, وغيرها من مطالب هي كل متكامل لتعلم جامعي كفء يليق بجامعتنا وتاريخها العريق. غير ان مااحزنني في الامر كله ان يسعي بعض الاساتذة ومنهم اساتذة احبهم واعرف قدرهم بالالتفاف علي تلك المطالب واجهاضها والدفاع عن الادارة والوزارة بالحق او بالباطل, والسعي لاتهام الاساتذة المحتجين بالغوغائية والتقصير في حق الجامعة وطلابها وليس مثل:اساتذة حركة9 مارس لاستقلال الجامعة وليس مثل: عبدالجليل مصطفي ومحمد ابوالغار ومعهم تاريخهم العلمي والوطني الباهر, ممن يجوز اتهامهم, بل انني اظن ان غاية جهد المجتهدين المخلصين ان يحاولوا الوصول الي بعض قامتهم السامقة, لو استطاعوا. [email protected]