لم أنتبه في بادئ الأمر إلا حين نبهني بواب المنزل إلي ذلك بقوله: -- إنه يتتبعك بمجرد خروجك من المنزل! وبدأت ألا حظه. وتأكد لدي أنه يلاحقني في كل مكان أقصده. وكلما هممت بالقبض عليه, كان يختفي في لمح البصر كأنه شبح! تملكتني الحيرة وعبثت بي الظنون, فقصدت أحد المعارف الذي يشغل أحد المناصب الأمنية المرموقة والذي ظل في مكانه ثابتاي عرجت إليه في مكتبه بباب اللوق, ساردا ما حدث,فأجابني بقوله: ألك خصومة أو أثار مع أحد. فأجبت بالنفي. وأردف: --أتمارس نشاطا معاديا للنظام. --في تعجب: --آلم يسقط؟! في سخرية: الأنظمة لا تسقط أبدا. في ضيق منهياي المقابلة: --أمهلني بعض الوقت قصير القامة, تخاله قزماي, له القدرة علي التلون في كل الأجواءو عندما يتتبعني في إحدي الحارات أو الأزقة الشعبية, أراه مرتدياي جلباباي وعمامة بيضاء وشالا مزركشا منسدلا علي صدره. وعندما يتتبعني لعملي بجاردن سيتي, يبدو لي في حلة بيضاء ورابطة عنق أنيقة, يدخن السبجار, وحين صليت العصر مرة بمسجد السيدة عائشة لمحته خلفي بلحية كثة يسجد في خشوع, بل أنني حين اخترقت ذات اليوم ميدان التحرير بجوار المتحف المصري, وبدا لي مرتديا زيا رعونيا عجيبا!! جاءني صوته عبر الهاتف بعد بضعة أيام: لا شيء يشوبك, ولا أحد يتعقبك. --ولكن...... مقاطعا: --حمزة, انتبه لنفسك ودعك من هذه الأوهام.. ألقتني هذه المكالمة في جب سحيق, وتساءلت أيكون قد حل بي الجنون؟ وعزمت علي اللجوء إلي الشيخ العارف بالله وقصدته في مسجد السيدة نفيسة وجلست بين يديه, شارحاي حالي: --أتوهم مطاردة شخص لي, وأراه في كل مكان, أعطب ألم بعقلي؟؟ فأجابني وهو يبسمل ويحوقل والمسبحة بين يديه: --عندما يفيض القلب, يعجز العقل أحياناي عن الإدراك. غادرته وأنا أنوء بحملي أكثر, ولكني أدركت بأنني أجابه ما لا أطيقه. وحاصرتني الهواجس.. فأنا لم أخرق يوما قانونا أو أخالف لائحه, كنت دوماي مطيعاي لرؤسائي, مجتهداي في عملي, لم أعتنق مذهباي أو أتبني فكراي أو أتمرد علي نظام أو عرف, وإنما اكتفيت دوماي بالصمت والمشاهدة.. فلماذا يحدث هذا لي؟ لاحت لي بوادر مؤامرة, وشرك ينصب لي, فصممت علي النجاه بأي ثمن. قبعت في الخفاء, حتي ظهر واضحاي جلياي, بقامته القصيرة, وبدأت في تعقبه تفصلنا مسافة تسمح لي برؤيته دون أن يراني وجدته يخترق الزحام قاصدا كورنيش النيل أمام ماسبيرو ثم عرج إلي ميدان التحرير وسط الضوضاء والصخب والخيام المنصوبة, وثم توقف لحظات أمام شارع القصر العيني وفي كل مرة كان يتبادل الكلمات مع بعض الأشخاص, ثم استدار عابراي كوبري قصر النيل, مجتازاي التجمعات حتي وصل إلي مسرح البالون, ووقف متأملاي أفيش العرض! شعرت بالإنهاك والتعب لكني أيقنت بضرورة حسم الأمر, اقتربت منه في حذر وهو يوليني ظهره, ووضعت يدي علي كتفه,إستدار لي وقبل أن أتفحص ملامح وجهه,شعرت بنصل حاد ينغرس في لحمي. ما بين إغماءة وأفاقة.. حل وجه الشيخ العارف بالله, فقلت له وأنا ممددا علي سرير, أنازع الوجع, بصوت واهن: --بأي ذنب قتلت, وأنا لم أفعل شيئا؟ فتأملني بعينين دامعتين وقال في أسي: بل قتلت لأنك لم تفعل شيئا. القاهرة: مهاب حسين مصطفي