فجأة, بدأت الآلة الإعلامية الاسرائيلية هذه الأيام تروج بقوة لقصص اخبارية ساخنة, يؤكد مفادها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو يدرس بجدية إمكانية شن هجوم عسكري علي البرنامج النووي الإيراني. وتقول مجلة نيوزويك الأمريكية ذائعة الصيت: إن هذه الآلة الإعلامية الجبارة جندت عددا من كبار الصحفيين لكتابة مقالات تجزم بأن نيتانياهو ووزير دفاعه إيهود باراك يدفعان مجلس الوزراء الإسرائيلي دفعا للتصويت لصالح هذا الهجوم, وذلك علي ما يبدو لتهيئة الرأي العام الإسرائيلي والعالمي لهذا التحرك. قرار نيتانياهو ودخل الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ابن مؤسسة الموساد الاستخبارية علي الخط في تحرك سياسي لافت, إذ قال: إن احتمال توجيه اسرائيل ضربة عسكرية لإيران قد ازداد في الآونة الأخيرة. ودفع هذا الجدل الدائر بين القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية إضافة الي الحديث العلني عن هذا الموضوع في الشارع الإسرائيلي محللين عسكريين وسياسيين الي الاعتقاد فعلا بأن نيتانياهو قرر توجيه ضربة عسكرية الي إيران, وأنه كان خلال الأيام الماضية في انتظار صدور تقرير حاسم من وكالة الطاقة الذرية يجزم بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ تعامل الوكالة مع الملف الايراني بأن هذا البرنامج المثير للجدل له جوانب عسكرية تستدعي وقوف المجتمع الدولي ضده. وحدث أن جاء التقرير علي هوي نيتانياهو تماما( ولعل من أكبر المفارقات السياسية هنا هو اعتراف الوكالة رسميا بأنها اعتمدت علي تقارير من أجهزة استخبارات في وضع تقريرها الخطير وهو ما يفقده بشكل كبير حياديته ومصداقيته العلمية والموضوعية). تقرير مشبوه فقد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية, في أكثر تقاريرها تفصيلا حتي الآن بشأن البرنامج النووي الإيراني, أن إيران عملت فيما يبدو علي وضع تصميم لقنبلة ذرية, ويحتمل أنها مازالت تجري بحوثا تتعلق بمثل هذه الأسلحة. وأشارت الوكالة, مستشهدة بمعلومات وصفتها بأنها موثوقة من دول أعضاء وأماكن أخري, الي سلسلة من الأنشطة التي يمكن تطبيقها لتطوير أسلحة نووية مثل اختبار شحنة شديدة الانفجار وتطوير أداة تفجير قنبلة ذرية. وقال التقرير: إن بعض الأبحاث وأنشطة التطوير التي تقوم بها إيران والتي تمت الإشارة إليها, لها تطبيقات مدنية وعسكرية لكن أبحاثا أخري تتعلق تحديدا بالأسلحة النووية. وكان من الطبيعي أن تسارع إيران ودول مثل روسيا للتنديد بالتقرير, ونعته بأنه غير مهني ومنحاز وله دوافع سياسية, علي حد تعبير علي أصغر سلطانية مبعوث ايران لدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بل ووصل الأمر الي حد التشكيك في مصداقية مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا امانو الذي وصفته طهران بأنه أداة في يد واشنطن. كما كان من الطبيعي أن تنتهز الولاياتالمتحدة وحلفاؤها فرصة تقرير الوكالة لتكثيف الضغط الدولي علي ايران من أجل فرض مزيد من العقوبات عليها. سيناريوهات الضربة ولكن ما هي السيناريوهات المحتملة لتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني؟ يطرح خبراء عسكريون عدة سيناريوهات لهذه الضربة علي النحو التالي:السيناريو الأول: ويعرف هذا السيناريو بسيناريو الجنرال الاسرائيلي المتقاعد يتسحاق بن يسرائيل, رئيس لجنة الطاقة النووية في الكنيست الاسرائيلي وأحد المشاركين في التخطيط لضرب مفاعل العراق. فقد أكد بن يسرائيل أن هناك إمكانية من الناحية الفنية لضرب المفاعلات النووية الإيرانية وعودة طائرات سلاح الجو الإسرائيلي بسلام. ومن وجهة نظر هذا الجنرال المتقاعد, فإن ضرب المنشآت النووية الإيرانية أسهل بكثير من ضرب اسرائيل للمفاعل النووي العراقي في عام1981, معللا ذلك بامتلاك إسرائيل معلومات أكثر دقة من تلك المعلومات التي كانت تمتلكها عند قصف المفاعل العراقي, إضافة الي تطور التكنولوجيا الاستخبارية والهجومية. كما شدد ذلك الجنرال الإسرائيلي المتقاعد علي أهمية تحديد الأهداف التي ستضرب. وكشف بن يسرائيل أن هناك طائرات عسكرية أمريكية يمكن استخدامها وهي قادرة علي تصويب قنابلها بدقة علي الأهداف الإيرانية دون اكتشافها أو القدرة علي المساس بها, وهو ما يعني أن الضربة المحتملة ستكون علي الأرجح إسرائيلية أو إسرائيلية بالطائرات الأمريكية, وتحت مظلة أمريكية. وفي إطار هذا السيناريو, ستكون العملية العسكرية محدودة وخاطفة, ولكن في المقابل, سيكون من الصعب علي إسرائيل قصف كل الأهداف النووية الإيرانية, ومن ثم فإنها ستستهدف بدلا من ذلك اثنين أو ثلاثة من مواقع المفاعلات النووية الرئيسية لتلافي خطر الفشل, وبالتحديد كما حدث في قصف المفاعل النووي العراقي في عام1981 ومنشأة دير الزور السورية في يونيو من عام.2007 السيناريو الثاني: ويتمثل هذا السيناريو في القيام بضربات تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية وتشارك فيها الدول الراغبة من حلف شمال الأطلنطي, وذلك تحت مظلة العقيدة الاستراتيجية للحلف التي تجعل من أبرز مهامه منع انتشار الأسلحة النووية علي أن تبقي اسرائيل في الاحتياط وبعيدة عن الأنظار. ومما يميز هذا السيناريو حجم الامكانيات الهائلة التي ستستخدم ضد الأهداف النووية الإيرانية بما في ذلك آلاف الصواريخ الجوية والبحرية من طراز توماهوك, ومئات الطائرات التي ستكلف بمهمة منع إغلاق مضيق هرمز وضمان تدفق النفط وعبور ناقلات النفط والملاحة, وشل منظومات الدفاعات الايرانية وقصف المطارات وتعطيل الرادارات وتدمير بطاريات الصواريخ البالستية ومحطات تخصيب اليورانيوم في ناتانز وآراك وبوشهر ومركز أصفهان للتكنولوجيا والمفاعلات الاختبارية الأخري, إضافة الي قواعد الحرس الثوري ومراكز السيطرة والقيادة والتحكم. وفي هذا السيناريو تأخذ العملية مداها من الوقت والأولوية لفعالية الضربات وتدمير الأهداف ومحاولة ايقاع الصدمة والرعب والمباغتة للحد من امكانية استيعاب الصدمة ومنع ردود الأفعال الإيرانية, وذلك علي عكس السيناريو الأول الذي يتيح لإيران إمكانية الرد بقوة. السيناريو الثالث: يتمثل هذا السيناريو في القيام بضربات إسرائيلية بريطانية فرنسية علي غرار العدوان الثلاثي علي مصر في عام1956 ولكن بغطاء واسناد أمريكي من وراء الستار لدواعي المناورة والحفاظ علي العلاقة مع دول الخليج والدول العربية الأخري والإسلامية, وهو يشابه السيناريو الثاني في بنك الأهداف ما عدا القيادة التي ستكون لإسرائيل. الرد الإيراني أما بالنسبة الي الرد الإيراني, فإنه من المرجح أن تكون سيناريوهات الإيرانيين مبنية علي احتواء الموقف, وذلك باستيعاب الصدمة وامتصاص الضربات الأولي وإطالة أمد المعركة وتحويلها لحرب استنزاف باستخدامها ما يتوفر لديها من امكانيات دفاعية وهجومية وهي ليست قليلة, وفي مقدمتها الضربات الصاروخية باتجاهات متعددة للمواقع الأمريكية والإسرائيلية, واستخدام قواتها البحرية وخلاياها النائمة المنتشرة, فمفاعلات إيران ليست كمفاعل تموز العراقي الذي استغرق ضربه مدة دقيقتين ولم يعلم به الرئيس الأمريكي آنذاك إلا بعد عودة الطائرات الإسرائيلية من مهمتها( أو هكذا قيل). يوم القيامة فثمة من يقول إن القدرات السياسية والعسكرية التقليدية الإيرانية قادرة علي جعل الموقف برمته في منطقة الشرق أشبه بسيناريو يوم القيامة في حال تعرضها لضربة عسكرية. ففي وسع إيران جزئيا أو كليا تحويل منطقة الخليج الي أشبه بالجحيم وهو ما قد يعني صدمة نفطية مروعة ترتفع معها أسعار النفط بصورة قد تصيب الاقتصاد العالمي بالشلل. كما أنه في وسع إيران استغلال نفوذها لدي الأقليات الشيعية في المنطقة( خاصة في السعودية والبحرين والكويت) وغيرها لضرب المزيد من المصالح الإسرائيلية والغربية, بما في ذلك استغلال سلاح حزب الله في ضرب أهداف داخل إسرائيل نفسها. وثمة من يتحدث عن قيام طهران بتوجيه صواريخها فعلا نحو مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي باعتباره أحد الأهداف المحتمل ضربها وهي ما قد يعني كارثة نووية رهيبة. الخطة جاهزة وهناك في المقابل من يقول إن إسرائيل رسمت فعلا خطتها الحربية منذ زمن بعيد, وإن الطائرات الإسرائيلية أجرت مناورات وتدريبات علي قطع المسافات الطويلة والتزود بالوقود فوق البحر الأبيض المتوسط في عمليات تحاكي قصف الأهداف الإيرانية. ولا يختلف اثنان علي أن أسلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية التدميرية التقليدية تكفي لضرب إيران, ولكن للولايات المتحدة ولرئيسها الذي يستعد لانتخابات الرئاسة في العام المقبل, أولويات قد لا يكون من بينها التورط في مغامرات سياسية جديدة. أما نيتانياهو المأزوم فقد جاء للحكم بوعد وعهد قطعهما علي نفسه هو تخليص شعبه من المشروع النووي الإيراني, وهو يسعي الي تحقيق ذلك برغم تحذير معظم قياداته العسكرية والأمنية من مغبة المخاطرة والمغامرة, لان إسرائيل لوحدها تبدو غير مؤهلة لذلك, لكنه بحاجة ماسة الي تصدير أزماته السياسية والاقتصادية وتغيير قواعد اللعبة والخروج من الزاوية التي حشر نفسه فيها. وهناك من يقول إن نيتانياهو يحاول الآن استخدام سياسة حافة الهاوية عبر التهويل والتلويح باستخدام القوة ضد إيران, مستغلا الضغف الأمريكي وخريف الرأسمالية الاقتصادي وهي ظروف تشابه الظروف التي شكلت المحفزات الرئيسية للحرب العالمية الثانية لعله يفلح بتوريط الغرب معه في هذه المغامرة. لكن الغرب هذه المرة يبدو منهكا بعد تجربة الناتو في ليبيا والأزمات الاقتصادية الشرسة التي تعصف باقتصادات الدول الغربية الكبري هذا, كما أنه سيكون من الصعوبة بمكان اقناع الرأي العام العالمي بمنطقية هذه الضربة في هذا التوقيت الدقيق. باختصار, فإنه من شأن القيام بغارة عسكرية علي منشآت نووية إيرانية أن يلحق ضررا عميقا بالأمن والرخاء العالميين, مما يبرز حسب كثير من المراقبين ضرورة مواصلة استخدام وسائل الضغط الأخري علي طهران خاصة العقوبات بدلا من الخيار العسكري. وكما يقول مالكولم تشالمرز مدير قسم الأبحاث في المعهد الملكي لدراسات الدفاع والأمن ببريطانيا, ان أي ضربة عسكرية ستجعل من إيران دبا جريحا يعمد الي التصرف بطريقة لا يمكن التكهن بعواقبها. بل إن هناك من يذهب أبعد من ذلك بالتأكيد أنه لا يوجد أصلا صراع عقائدي بين إيران من ناحية والولاياتالمتحدة وإسرائيل من ناحية أخري, وانما الأمر ليس أكثر من صراع مصالح جيواستراتيجي في المنطقة يمكن تسويته سياسيا من تحت الطاولة لتظل الملاسنات الإعلامية آلية فعالية للاستهلاك المحلي لدي كلا الجانبين. ويدلل هؤلاء علي هذا الكلام بصفقة أو فضيحة( ايران كونترا) في ثمانينيات القرن الماضي, التي عقدت بموجبها ادارة الرئيس رونالد ريجان اتفاقا مع إيران لتزويدها بالأسلحة عبر إسرائيل بسبب حاجة طهران الماسة لأنواع متطورة منها في أثناء حربها مع العراق. كما يقول هؤلاء إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تسلم الولاياتالمتحدة العراق بعد غزوها إياه في عام2003 للساسة الإيرانيين علي طبق من فضة وتخلصهم من عدوهم اللدود( صدام حسين), تماما كما خلصتهم من قبل من حركة طالبان عدوة طهران اللدودة في أفغانستان.