أسعار الخضروات اليوم الأربعاء 29-5-2024 في قنا    ارتفاع أسعار النفط مع توقعات إبقاء كبار المنتجين على تخفيضات الإنتاج    منها تيك توك وميتا وإكس، أمريكا تطالب شركات التكنولوجيا بالإبلاغ عن المحتوى المعادي للسامية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    سينتكوم يعلن إسقاط 5 مسيرات أطلقها الحوثيون فوق البحر الأحمر    شيكابالا يطلق مبادرة للصلح بين الشيبي والشحات، واستجابة فورية من نجم الأهلي    وظائف السعودية 2024.. أمانة مكة تعلن حاجتها لعمالة في 3 تخصصات (التفاصيل والشروط)    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    بالصور.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29 مايو في محافظات مصر    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    الحوثيون أطلقوا 5 صواريخ بالستية مضادة للسفن في البحر الأحمر    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «كان زمانه أسطورة».. نجم الزمالك السابق: لو كنت مكان رمضان صبحي ما رحلت عن الأهلي    فيديو ترويجي لشخصية إياد نصار في مسلسل مفترق طرق    شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    إسرائيل تسير على خط العزلة.. والاعتراف بدولة فلسطين يلقى قبول العالم    التعليم تطلق اليوم المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة 2024 على مستوى الجمهورية    يرسمان التاتوه على جسديهما، فيديو مثير لسفاح التجمع مع طليقته (فيديو)    جوزيف بلاتر: أشكر القائمين على منظومة كرة القدم الإفريقية.. وسعيد لما وصلت إليه إفريقيا    حزب الله يبث لقطات من استهدافه تجهيزات تجسسية في موقع العباد الإسرائيلي    اليوم.. الحكم علي المتهم بقتل طليقته في الشارع بالفيوم    ارتفاع أسعار اللحوم في مصر بسبب السودان.. ما العلاقة؟ (فيديو)    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    كريم العمدة ل«الشاهد»: لولا كورونا لحققت مصر معدل نمو مرتفع وفائض دولاري    حسين عيسى: التصور المبدئي لإصلاح الهيئات الاقتصادية سيتم الانتهاء منه في هذا التوقيت    إلهام شاهين: "أتمنى نوثق حياتنا الفنية لأن لما نموت محدش هيلم ورانا"    هل يمكن أن تدخل مصر في صراع مسلح مع إسرائيل بسبب حادث الحدود؟ مصطفى الفقي يجيب    شيكابالا يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك بشأن زيزو    «مستعد للتدخل».. شيكابالا يتعهد بحل أزمة الشحات والشيبي    «خبطني بشنطته».. «طالب» يعتدي على زميله بسلاح أبيض والشرطة تضبط المتهم    إصابة 6 أشخاص في حادثي سير بالمنيا    إرشادات للتعامل مع مرضى الصرع خلال تأدية مناسك الحج    نشرة التوك شو| تحريك سعر الخبز المدعم.. وشراكة مصرية عالمية لعلاج الأورام    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    باختصار.. أهم أخبار العرب والعالم حتى منتصف الليل.. البيت الأبيض: لم نر أى خطة إسرائيلية لتوفير الحماية للمدنيين فى رفح.. النمسا: مبادرة سكاى شيلد تهدف لإنشاء مظلة دفاع جوى أقوى فى أوروبا    شعبة المخابز تكشف حقيقة رفع الدعم عن رغيف الخبز    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    هل طلب إمام عاشور العودة إلى الزمالك؟.. شيكابالا يكشف تفاصيل الحديث المثير    3 أبراج تجد حلولًا إبداعية لمشاكل العلاقات    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    «الأعلى للآثار» يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بعد ترميمه.. صور    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    تراجع سعر الحديد وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    الوقاية من البعوضة الناقلة لمرض حمى الدنج.. محاضرة صحية بشرم الشيخ بحضور 170 مدير فندق    «زي المحلات».. 5 نصائح لعمل برجر جوسي    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغزاله مقاطع من رواية

من أقوال معلمي (1)‏ أجلسني معلمي مجلس العلم وقال‏:‏ سنن ثلاث أؤدبك عليها ما تيسر لي ولك من طاقة ووقت‏:‏ خدمة الخلق‏..‏ واستخلاص الحق‏..‏ واتباع الطريقة‏.
وقال‏:‏ خدمة الخلق عطاء‏..‏
واستخلاص الحق واجب‏..‏
واتباع الطريقة ضرورة‏..‏
وقال‏:‏
خدمة الخلق عطاء بلا مكابرة‏..‏
واستخلاص الحق واجب بلا عسف‏..‏
واتباع الطريقة ضرورة بلا ضرر‏.‏
‏(2)‏
وقال لما رأي انبهاري بما لديه‏:‏
الحمية لا الفترة‏..‏
والصفوة لا الكدرة‏..‏
وغني الفقر لا فقر الأغنياء‏..‏
وقال‏:‏
الحمية أنفة‏..‏
والصفوة خلوص‏..‏
وغني الفقر اكتفاء‏..‏
وقال‏:‏
الحمية أنفة بلا خشية‏..‏
والصفوة خلوص بلا عكارة‏..‏
وغني الفقر اكتفاء بلا انحناء‏.‏
‏(3)‏
وعلي سبيل الرمز أمسك بثلاث فسائل وقال‏:‏
أزح حسك تربتك كيما أغرس هذه الفسائل الثلاث‏..‏
فهذه من حقل سخاء‏..‏
وهذه من غوطة رضا‏..‏
وهذه من بطحاء صبر‏..‏
وقال‏:‏
لا تطرح فسيلة حقل السخاء إلا جودا‏..‏
ولا تثمر فسيلة غوطة الرضا سوي القبول‏..‏
ولا تعطيك فسيلة بطحاء الصبر غير الجلد‏..‏
وقال‏:‏
لا تطرح فسيلة حقل السخاء إلا جودا لا ينتظر معه عوض‏..‏
ولا تثمر فسيلة غوطة الرضا سوي قبول لا ينفع معه رفض‏..‏
ولا تعطيك فسيلة بطحاء الصبر غير جلد لا يستقيم معه روع‏.‏
‏(4)‏
بوجه مقمر طفق يقول كلاما كثيرا‏:‏
قال‏:‏
لا تزه زهو الفرس‏,‏ ولا تته تيه الطاووس‏.‏
‏.......‏
وقال‏:‏
الإفراط في الظن متلفة للوقت‏.‏
‏.......‏
وقال‏:‏
إن كان معك الترياق‏,‏ فهل تشرب السم؟
‏.......‏
وقال‏:‏
من كانت العزلة ملاذه‏,‏ كان الخزي قرينه‏.‏
‏.......‏
وقال‏:‏
اتبع الهوي واعص ما شئت‏.‏
‏.......‏
وقال‏:‏
‏-‏ الجلاء في التخفي‏..‏ والسكينة في الاضطراب‏.‏
‏.......‏
وقال‏:‏ الغفلة حزازة قلوب‏.‏
‏.......‏
‏.......‏
‏.......‏
خيل إلي أنني أسمع غطيطا تأكدت أنه صادر عني لما انتبهت إلي أصابعه تشدني من خرقتي‏,‏ وتقيم رأسي المنكفئة فوق صدري‏.‏ رفعت بصري إليه‏,‏ فقال بلسان المتحسر‏:‏
النوم خلة أهل الغفلة‏..‏ انهض‏..‏ انتهي الدرس‏.‏ فنهضت ونير من الأسي يطوق عنقي‏.‏
رجال شائهون
‏(1)‏
مدعي الطريقة
كنا وقت الدرس حينما دخل علينا رجل شديد الهزال ممتقع الوجه‏.‏ قال وكانت جوارحنا معلقة بالمعلم تأخذ عنه ما يجود علينا به‏:‏
أنا أيضا معلم وصاحب طريقة‏.‏
سأله معلمي‏:‏
فأين طمأنينتك؟‏..‏ وأين تلاميذك ولا أقول أتبعاك؟
قال‏:‏
طمأنينتي في نفسي‏,‏ وتلامذتي سآخذهم من هؤلاء المحيطين بك‏.‏
فرد عليه معلمي‏:‏
كذبت‏,‏ فلو كانت طمأنينتك في نفسك ما امتقعت بشرة وجهك‏,‏ ولو كنت قادرا علي جذب تلاميذي إليك ما كنت بلا تلاميذ وأتباع حتي الآن‏.‏
فازداد وجه الرجل امتقاعا‏,‏ وحف به التلاميذ مستهزئين‏.‏
‏(2)‏
الدرويش الذي قال أعطياني بعض قوت
دخل علينا رجل بقدمين حافيتين يعلوهما الوسخ‏,‏ وكفين أسود لونهما‏,‏ وساعدين وزندين حطت فوقهما هوام الطير وأمنت‏.‏ وكانت له لحية ملبدة تهبط إلي خرقته المخرقة وتتدلي حتي حزامه المجدول من الليف‏,‏ وفوق اللحية راحت تتحرك صعودا وهبوطا جماعات من القمل وحشرات مستدقة لا أعرف لها نوعا ولا اسما‏.‏ وبين كثافة اللحية وشعر الرأس المغطي بطين له هيئة ولون القار اختفت ملامح وجهه تحت قشف وقشور بسماكة حراشف ظربان التلول‏.‏
أما العطن والعفن فقد غمر المكان وعمنا منذ دخل علينا‏.‏
قال الرجل‏:‏
أنا درويش فأعطياني بعض قوت‏.‏
صحيح أن صوته قر في دواخلنا وفهمناه‏,‏ لكن النتن الذي فح من جوفه أزاد من العطانة والعفونة المحيطتين بنا حتي لكأنه حين نطق تغوط أو ضرط في وجهينا‏.‏ انقلبت معدتي فقئت فيما انفتل معلمي إلي الممر ونادي علي سائر تلاميذه فجاءوا هرولة ليدهم القيء بعضهم ويقبض الآخرون علي بطونهم أو يكتمون أفواههم أو يسدون أنوفهم‏.‏ أشار معلمي بما فهمنا منه أنه يأمرنا بدفعه صوب الحمام ففعلنا‏,‏ ومعلمنا معنا‏.‏ حلحلناه من مكانه بصعوبة لأننا لم نرد أن نلمسه وما كانت أيادينا لتقدر علي ملامسته‏,‏ وإن أردنا‏.‏ بمحاصرتنا إياه وجهناه صوب الحمام حيث جرؤنا علي فك حزامه وتمكنا من تخليصه من خرقته فاستلمها نفر انهمك في تنظيفها‏.‏ وما بين مقاومة منه وفتور أمضينا وقتنا معه نناضله ويناضلنا إلي أن صببنا الماء عليه صبا‏,‏ ونثرنا المطهرات فوقه نثرا‏.‏ وإزاء مقاومته ونفوره مما استشعر أننا فاعلوه به تكالب عليه عدد منا فقيد حركته وتطوع اثنان ففشخا شدقيه وثالث ففرش أسنانه‏,‏ وبينما هوي بعضنا علي آجامه بالمقصات والشفرات‏,‏ انهمك عدد منا في إزاحة الأوساخ وصرعي الهوام من فوق البلاط إلي المجارير‏,‏ وانتهز آخرون الفرصة قبل الانتهاء من تشذيب آجامه فبادر بالاندفاس تحت الأدشاش بغية التخلص مما قد يكون علق بأجسادهم من أدران وهوام‏.‏
بعد أن هبطنا عليه بالمناشف أبعدنا عنه معلمنا وتمليناه فإذا به قد استحال إلي آدمي مثلنا‏.‏
أمرني معلمي فجئت بمرآة وما كنت لأدري وأنا أضعها أمام عينيه أنه سيصيح هذه الصيحة التي لم أسمع لها مثيلا‏.‏ صيحة هي مزيج من صيحات المتفاجئين والمبهورين والمستحسنين والخائفين‏,‏ وبلغت من العلو حدا لم يرج المرآة بين قبضتي فحسب بل رجتني ورجت جميع التلاميذ وجدران الحمام‏,‏ ثم ما لبث أن أزاحنا جميعا‏,‏ وانفلت من معلمي‏,‏ وفر مسرعا إلي شوارع المدينة‏.‏ من فوري سارعت وسارع التلاميذ بالعدو خلفه‏,‏ إلا أنه كان باتجاه الفلاة يمضي عاريا‏.‏ هتف بنا معلمنا فأوقفنا‏,‏ ثم دنا منا وحاذانا‏,‏ ثم شاركنا التحديق فيه إذ يذوب بعريه ونظافته وجوعه في الصفرة الشاسعة‏.‏ بعدها مال معلمي إلي وسألني‏:‏
ما قولك؟
فرنوت إلي الخرقة المبلولة في يد التلميذ الذي يجاورني وارتج علي القول‏,‏ وما زلت للآن أبحث عما كان ينبغي أن أجيب به علي سؤال معلمي فلا أجده‏.‏
‏(3)‏
جامع الجواهر
بالقرب من بئر وردناه‏,‏ لنستبرد ونغتسل ونشرب‏,‏ بزغ من السراب البعيد شبح‏.‏ لما دنا‏,‏ رأينا فيه رجلا جفت شفتاه‏,‏ وغطي الوحل ساقيه وساعديه‏,‏ وتشققت كوعاه‏,‏ ودميت ركبتاه‏,‏ وعلت الخدوش بشرة وجهه‏,‏ وأحاطت به هالة من ذباب الصحراء‏;‏ غير أن الجواهر المتلألئة بكل لون كانت معلقة بعنقه‏,‏ متدلية إلي صدره‏,‏ مطوقة لخصره‏,‏ ومحيطة بأصابعه وزنديه‏.‏
ظنناه مقبلا علينا‏,‏ إلا أنه عبرنا والبئر دونما التفات‏.‏
استوقفه معلمي علي مسافة منه‏,‏ ليتوقي خبيث رائحته ويسلم من أذي ذبابه‏,‏ سأله‏:‏
يا رجل‏..‏ حففت بنا ولم تسلم‏,‏ فما بالك تشق علي نفسك بحمل كل هذه الأحجار‏.‏
فرد عليه الرجل بجفاء وكبر يداري بهما ما هو عليه من وهن‏:‏
لعلك أعمي‏..‏ إن ما تسميه أحجارا إن هو إلا نفيس الجواهر‏.‏
بادله معلمي جفاء بجفاء وكبرا بكبر‏.‏ وأظهر له‏,‏ اشمئزازه من شكله ورائحته‏,‏ ثم قال‏:‏
الأعمي من يكون الماء قيد خطوة منه وهو صاد متسخ‏,‏ فلا يغترف منه ما يروي ظمأه ويزيل وسخه‏..‏ ثم قل لي‏..‏ ما فائدة هذا النفيس‏,‏ بلونه وبريقه‏,‏ وقد أحني رأسك‏,‏ وأدمي جسمك‏,‏ وأوحل ساقيك وساعديك؟
اجتهد الرجل أن يظل ثابتا‏,‏ وقال ومن الذباب ما أكل من عينيه ووقف علي شفتيه ومنخاره‏:‏ ألا يمكن للجواهر أن تغوص في الوحل؟
أجاب معلمي‏:‏
بلي‏.‏
قال الرجل‏:‏
ألا يمكن للجواهر أن تزين مفارق الجبال؟
أجاب معلمي‏:‏
بلي‏.‏
علي ما به من انحناء ووهن ووسخ‏,‏ ابتسم الرجل مزهوا‏,‏ وقال‏:‏
هذا جواب سؤالك‏,‏ وأنت من أجاب‏.‏
فأبطل معلمي زهوه بابتسامة مغايرة تلألأت‏,‏ من فرط اتساعها‏,‏ أسنانه بما غطي علي تلألؤ جواهر الرجل‏,‏ ثم قال بصوت فيه غلظة‏:‏
ما أوهاه من جواب‏,‏ وما أردأه من تعلل‏..‏
وشفع غلظة الصوت بنظرة غضب وأردف‏:‏ جواهر الأحجار أتفه في صنعها علي الأرض من الوحل وهامات الجبال‏.‏
ثم ألان من صوته ورقق من نظرته‏:‏
التفت يا هذا إلي ما أنت عليه من ضعف ووسخ وسوء حال‏,‏ وخفف عن نفسك ما تثقلها به تسلم‏.‏
لكن الرجل لم يبد اقتناعا‏,‏ ومضي منحنيا بأحجاره ووسخه وذبابه إلي أن ابتلعه السراب‏.‏
بعد أن أتممنا الاستبراد والاغتسال والارتواء‏,‏ حملنا ما قدرنا عليه من ماء البئر ومضينا‏,‏ لنجد الرجل بعد بضعة فراسخ جثة ملقاة يتناهشها الطير‏,‏ وكان الطير من حسن الفطنة أن التفت إلي التقام اللحم وأزاح عنه الجواهر‏.‏
‏(4)‏
العتل الباطش
كغريبين مضينا في المدينة‏,‏ شارع يفضي بنا إلي شارع‏,‏ وميدان إلي ميدان‏,‏ حتي جن الليل‏,‏ وأضيئت الأنوار‏,‏ وعجت الشوارع بالمارة‏.‏ تحت لافتة ملهي ليلي أطاح عتل باطش بمجاوريه‏,‏ فتوقفنا نستطلع‏.‏ احتج بعض ممن نهض‏,‏ فرمي بهم إلي أسفلت الشارع‏.‏ هائجا ملتاثا بدا‏.‏
زأرت سيارات وهي تتوقف‏,‏ خشية الاصطدام بالمتدحرجين أمامها‏,‏ ولوح سائقوها بأذرع ساخطة‏,‏ فما كان منه إلا أن قلب السيارات بسائقيها وعطل المرور‏.‏ اندفع صوبه حارس الملهي فدق العتل عنقه‏,‏ والمارة فأرداهم‏.‏ ألقيت عليه الحجارة والقناني والقوارير فاصطدمت به وارتدت دون أن يصيبه منها أذي‏.‏ نفخ جندي في صفارته فشاطه‏,‏ وأطلقت باتجاهه رصاصات‏,‏ فراغ منها حتي فرغت خزاناتها‏.‏ هرول إليه حاملو هراوات وسكاكين فقصم ظهور من أمسك بهم‏,‏ وكسر أذرع وأفخاذ من فروا منه‏.‏
تحولت الساحة أمام الملهي إلي مقلب للسيارات ومرقد للجثث الساكنة والمنتفضة‏.‏ أمام كل هذا الهول وقفنا‏.‏ معلمي في المواجهة‏,‏ وأنا بظهره أدعي التصالب‏.‏
رفع معلمي رأسه إليه وخاطبه مستحقرا‏:‏
انظر ماذا فعلت بجبروتك أيها العتل الباطش‏..‏ كأنك والموت في منافسة‏.‏
فقهقه العتل قهقهة ليس بينها وبين الزئير من فارق‏:‏
الموت؟‏..‏ هاهاها‏..‏ ليتحداني الموت إن قدر‏.‏
ما كاد ينهي جملته حتي سقط مفارقا الحياة‏;‏ وبطيئا بطيئا أخذت قشفات الأسفلت‏,‏ التي انفلقت وتطايرت من ثقل جرمه‏,‏ تهبط فوق جثته وتستقر‏.‏
مثلي مثل المتزاحمين جميعهم تعجبت وحرت لسقطته المفاجئة‏,‏ وإذ أدير باصري بين جثته وجثث الصرعي‏,‏ لاحت مني نظرة إلي وجه معلمي فانتشلني بطمأنينته مما أنا فيه وقال‏:‏
لا تعجب مما رأيت‏..‏ يقهر الموت من يزعم أنه له ند‏.‏
لما تبعني معلمي
في منطقة المستنقعات أشرت إلي الاتجاه الذي رأيت في جفاف سبخاته ما يؤمن مسيرنا‏.‏
نظر إلي معلمي مستفسرا ومخوفا‏,‏ فتجرأت عليه وعلي نفسي وقلت قبل أن أتقدمه‏:‏
لك يا معلم الحصباء والبقعاء وجلاميد الجبال ورمال الفلوات‏,‏ أما السبخ الناز فهو لي وأنا أدري به‏.‏
كان بعض من حبور قد تقحمني‏,‏ فها أنذا أخدم معلمي بشيء أتقنه‏.‏
مددت له يدي فلم يمد لي يديه‏,‏ ولم يسلم لي أيهما‏.‏ لمت نفسي‏,‏ وكاد فؤادي ينفطر لولا أنه تبعني‏.‏ خطا خلفي‏,‏ وبصمته البليغ تبعني‏.‏
أطاش سروري صوابي فهتفت أسمعه وأسمع الأكوان وما خلفها‏:‏
هذا يوم سعدي يا معلم‏.‏
غير أنها خطوات ونالت مني ارتجاجة رأيت من خلالها ذراعي معلمي تميدان وقوامه يقصر‏,‏ فقفز قلبي إلي بلعومي وصرخت‏:‏
يا معلم‏..‏
ولأن من الحقائق ما يعلن عن نفسه‏,‏ فقد تيقنت من أننا إنما نسوخ في سبخة هي دبق وملح وطين‏.‏
من فوره فش العطن وثقل الهواء وتداعت حشرات ما كنت لأظن أن لها في الحياة وجودا‏,‏ وظهرت حجافل من جنادب وصراصير وبراغيث ونمل يطير وآخر يمشي‏,‏ وتلاطم من حولنا ما لا حصر له من الأغشية السميكة والخراطيم الدقيقة والهدب اللواسع‏.‏
هلعت وخفت فقئت‏,‏ بينما كان معلمي رابط الجأش ثابتا في غوصه‏,‏ وظلت ملامح وجهه علي انبساطها لا تنبي عن جزع أو استهوال أو هلع‏.‏
رجوته‏:‏
دلني يا معلم علي طريقة للخلاص‏.‏
فنظر إلي ولم يتكلم‏,‏ فيما تماس السبخ وأطراف خرقتينا‏,‏ ومن فوقنا هام ناموس ورفرفت فراشات وزنت يعاسيب وحوم بوم‏,‏ ومن باطن السبخة اشرأبت حيات‏,‏ وفوق أديمها زحفت ديدان ويرقات‏.‏ وإذ أهش بكفي المرتعدتين ما يعلونا وأذب ما يتسلقنا ويقترب منا‏,‏ ظل معلمي محافظا علي ثباته وهدوء جنانه‏,‏ في حين هرولت إلي حواف السبخة عظاءات وأورال وحرابي‏,‏ وتقافزت جرذان وجرابيع‏,‏ وأتانا من الأحراش عواء ذئاب ونباح كلاب‏.‏
وصل السبخ إلي سرتينا‏,‏ ففكرت في فرار انقطعت سبله‏,‏ وغفران حرمته علي نفسي لتوريطي معلمي فيما هو فيه‏,‏ وأيقنت أن الهلاك واقع واقع‏,‏ واحترت فيما يبديه معلمي من قوة احتمال‏,‏ وتمنيت لو أن السبخة ابتعلتني فداء معلمي‏.‏ وبينما أنا في حالي هذه إذا بجذبة من قبضة معلمي لزندي‏.‏ ملهوفا نظرت إليه فإذا به يسلط عينيه في عيني ويقول‏:‏
هذا جزاء من ينقاد لمن لا يعرف أسرار الطريقة‏.‏
غص حلقي‏,‏ فقد أدركت أنه إنما يعيرني بغفلتي وجهلي‏.‏
وإذ يصل السبخ إلي عنقينا‏,‏ قال‏:‏
عيناك مفتوحتان وما هما بمفتوحتين‏.‏
ولما وصل السبخ إلي حواف ذقنينا أمرني بصوت تغشته حشرجة الاختناق‏:‏
افتحهما‏.‏
مع يقيني من كونهما مفتوحتين إلي حد الجحوظ‏,‏ امتثلت لأمر معلمي‏,‏ وما كان لي‏,‏ وقد مس السبخ شفتي‏,‏ إلا أن أمتثل‏.‏
ما إن فعلت حتي وجدتني ممددا علي الكليم‏,‏ ورأيت عيني معلمي تمسحان وجهي‏,‏ وكفه الشافية فوق جبهتي‏,‏ وانساب صوته رقيقا حنونا داخل أذني وببطء المستيقظ لتوه ميزت سؤاله‏:‏
ماذا فعلت بي وبنفسك في منامك‏..‏ يا أحمق؟
فصول من رواية جديدة تصدر غدا في سلسلة روايات الهلال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.