إذا كنت تبحث عن نموذج لشخص يعمل ست عشرة ساعة متوالية في اليوم, مكتفيا من النوم بأربع ساعات, منذ ميلاده وحتي أخريات حياته, فعليك بجورجي زيدان الذي رحل بين كتبه وأوراقه في مثل هذا اليوم من97 عاما. وتدين الصحافة, والثقافة المصرية, بواحدة من أهم مصادر المعرفة في مصر, إنها مجلة الهلال, التي صدر عددها الأول1892 يحمل افتتاحية بقلم جورجي زيدان أوضح فيها سياستها التحريرية بتعبير زماننا, وقد لقيت المجلة قبولا من الناس حتي لم يكد يمضي علي صدورها خمس سنوات حتي أصبحت من أوسع المجلات انتشارا. ولا تزال الهلال حتي يومنا هذا من أكثر المطبوعات تأثيرا مهما كانت أرقام توزيعها أقل من المنتظر أو المأمول. ولد جورجي زيدان في بيروت14 ديسمبر1861 لأسرة مسيحية فقيرة, وتعد حياته نموذجا للعصامي الذي يظهر في أفلام الظهيرة أو مسلسلات العشاء, ذلك الذي يبدأ من الصفر ويصبح واحدا من أنجح البشر. كان عائل أسرته رجلا أميا يملك مطعما صغيرا كان يتردد عليه طائفة من رجال الأدب واللغة, وطلاب الكلية الأمريكية. ولما بلغ الخامسة أرسله أبوه إلي مدرسة متواضعة ليتعلم القراءة والكتابة والحساب, حتي يستطيع مساعدته في إدارة المطعم وضبط حساباته, ثم التحق بمدرسة الشوام فتعلم بها الفرنسية, ثم تركها بعد فترة والتحق بمدرسة مسائية تعلم فيها الانجليزية. ولم ينتظم جورجي في المدارس, فتركها وعمل في مطعم والده, غير أن والدته كرهت له العمل بالمطعم, فاتجه إلي تعلم صناعة الأحذية وهو في الثانية عشرة ومارسها عامين حتي أوشك علي اتقانها لكنه تركها, لعدم ملاءمتها لصحته. بعد كل هذا التلطيم بسنوات اعتزم جورجي زيدان الهجرة إلي القاهرة ليتم بها دراسة الطب, وعندما وصلها غير مساره, وأخذ يبحث عن عمل يتفق مع ميوله نحو الكتابة والقراءة, فعمل محررا في صحيفة الزمان اليومية التي كان يملكها ويديرها رجل أرمني الأصل اسمه علكسان صرافيان( وهو ليس قريبا ليعقوبيان).أما إنشاء دار الهلال فله قصة, حيث تولي زيدان بعد فترة من وجوده بالقاهرة إدارة مجلة المقتطف, وظل بها نحو عامين ثم قدم استقالته ليشترك مع نجيب متري في إنشاء مطبعة, ولم تستمر الشركة بينهما سوي عام, انفضت بعده واحتفظ جورجي زيدان بالمطبعة لنفسه, وأسماها مطبعة الهلال, علي حين قام نجيب متري بإنشاء مطبعة مستقلة باسم مطبعة المعارف, ثم أصدر جورجي زيدان مجلة الهلال, وكان يقوم بتحريرها بنفسه, إلي أن كبر ولده إميل وصار مساعده في تحريرها. وكان زيدان من أوائل الروائيين المصريين( نستأذنك عزيزي القاريء في اعتباره مصريا) الذين تمت ترجمة اعمالهم إلي اللغات الأجنبية, فقد اشتهر برواياته التاريخية الشهيرة التي بدأها برواية المملوك الشارد, ثم تتابعت رواياته حتي بلغت اثنتين وعشرين رواية تاريخية, منها سبع عشرة رواية تعالج فترات من التاريخ الإسلامي. وقد لقيت هذه الروايات رواجا واسعا واقبالا هائلا, وترجمت إلي الفارسية والتركية, والأذربيجانية, وغيرها من اللغات. وظل زيدان محافظا علي اصدار مثل هذا النوع من الروايات حتي توفاه الله, وربنا يرحم الجميع.