ليس غريبا علي صحيفة نيويورك ديلي نيوز الأمريكية المملوكة لليهودي من أصول كندية مورتايمر زوكرمان أن تعلن تأييدها الصريح والمباشر لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصادر في السادس من ديسمبر الماضي الذي يقضي باعتبار القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني المسمي إسرائيل, إلا أن المثير للدهشة أن يأتي المقال المؤيد للقرار بشكل فج والمنشور بالجريدة النصفية تابلويد بتوقيع محرر مصري الأصل يدعي هيثم حسنين تحت عنوان مستفز يقول علي العرب القبول بوضع القدس!! إذ يصف الكاتب في مقاله المثير للجدل والاشمئزاز قرار ترامب بأنه القرار الصحيح الذي طال انتظاره لإصلاح الظلم التاريخي والاعتراف بواقع دام عقود كثيرة, وهو أن القدس هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي. وكما قال الله لموسي في القرآن الكريم, يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم. كم هائل من المغالطات والأكاذيب احتواها المقال في أولي فقراته, تستوجب طرح العديد من التساؤلات حول هوية الرجل الثقافية والدينية وانتمائه السياسي, ودوافع حماسه الشديد وانحيازه غير المبرر لوجهة النظر الصهيونية الخالصة المبنية علي أكاذيب وترهات بغرض تزييف الوعي العام الأمريكي والعالمي وإنكار حقائق دامغة يعلمها اليهود قبل غيرهم. فعن أي ظلم يتحدث الكاتب الأمريكي المصري الأصل المنحاز بكل كيانه للصهيونية العالمية في سابقة لم أصادفها علي مدي حياتي المهنية منذ ما يقرب من ثلاثة عقود؟! الأمريكيون واليهود قبلهم يعلمون أن القدس لم تكن يوما عاصمة لأي كيان يهودي, وهم يعتمدون منهجا في نشر الأكاذيب باستمرار حتي يصدقوها هم أنفسهم, ويبدو أن كاتب المقال تشبع بهذه الأكاذيب حتي صدقها وبات يرددها في مقالاته بلا وجل ولا خجل! يقول هيثم حسنين في مقاله الفج: كوني أمريكيا عربيا ترعرع في الشرق الأوسط, تعلمت منذ الصغر أن اليهود لا حق لهم في القدس وأن إسرائيل بالكامل أرض عربية, ومن هنا, تفاجأت لسماع بعض المثقفين الأمريكيين يعترضون علي خطوة ترامب علي أساس أنها تقلل من احتمال توقيع رئيس فلسطيني علي وثيقة لتقسيم القدس أو حتي الإقرار بحق اليهود في المدينة المقدسة. ولطالما أدهشتني أيضا رؤية مسئولين عرب يكذبون بشأن قبولهم لحقوق اليهود في القدس, فقد تعلمت في المدرسة وفي المسجد وعلي شاشة التلفزيون أن اليهود ليس لديهم أي ادعاء تاريخي ولا حقوق في المدينة المقدسة. وكما قال أستاذي في مادة التاريخ العربي ذات مرة في المدرسة المتوسطة: اليهود لا ينتمون إلي القدس ولا يملكون مترا واحدا فيها. والمثال الأوضح والأخير علي ذلك ما حدث بعد إعلان ترامب, إذ شدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس علي الإرث الإسلامي والمسيحي في المدينة المقدسة دون ذكر أي شيء يتعلق بحقوق اليهود. واستنادا إلي تجربتي الشخصية الكلام للكاتب أعتقد أن واضعو السياسة في الولاياتالمتحدة لم يتصرفوا بشكل عقلاني علي مدي سنوات عديدة, بل كانوا خاطئين في الاعتقاد بأن الملايين من العرب, ناهيك عن الفلسطينيين, سيقبلون بتسوية سلمية تعترف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية. هكذا تحول حسنين بالكلية إلي المنهج الصهيوني, ربما أكثر من غلاة الصهاينة, فهل تعرض لغسيل دماغ, أما استسلم لإغراء المال الصهيوني؟ لا أميل إلي توجيه اتهامات له, ولكن موقفه المعلن في المقال فضلا عن اهترائه, يشير إلي تطوعه لخدمة أهداف صهيونية خبيثة لا تستند لأي منطق, إلا اعتماد المنهج الإسرائيلي الأمريكي في فرض سياسة الأمر الواقع علي الفلسطينيين والعرب والمسلمين مجتمعين. يقول حسنين: وفي الواقع, إن السبيل الوحيد لإدخال هذه الفكرة في عقولهم هو الإصرار علي الأمر منذ البداية وفرضه كواقع غير قابل للتفاوض. لذلك, وقعت المسئولية علي عاتق الولاياتالمتحدة لإصلاح هذا الظلم التاريخي وجعل السكان العرب ينظرون إلي المرآة ويرون نفاق قادتهم الذين ضللوهم علي مدي سنوات. وقد سمعنا أقوالا كثيرة عن عنف مترقب, وحتي عن الحرب الفانية, إذا اعترفت الولاياتالمتحدةبالقدس عاصمة لإسرائيل وعندما تعترف بها, علي الرغم من أن الكونجرس الأمريكي أعلن مرارا وتكرارا أن هذا هو الحال. ولكن الأيام والأشهر القادمة ستثبت أن هذه التحذيرات مبالغ فيها, أجل, ستحدث حالات غضب واحتجاجات في بعض البلدان, لكن الحكومات العربية تجرم حرية التعبير والحق في التجمع, ومن المرجح أن تنظم الحكومات العربية احتجاجات أو تسمح بالقيام بها, وما يترتب عنها من أعمال عنف وشغب, لابتزاز مجتمع السياسة الأمريكية لإتباع وجهات نظرها, وهو أمر كانت الإدارات الأمريكية السابقة تتسامح معه للأسف. والحقيقة الأكثر احتمالا في عالم الربيع العربي هذا هي أن احتمال احتجاج المواطنين العرب والموت من أجل القضية الفلسطينية ضئيل جدا, إذ يفضلون التركيز علي كسب لقمة العيش في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشون فيها. أما أولئك الذين يحتجون, فتقودهم أجندة سياسية تنكر صراحة حق إسرائيل في الوجود, وهم معادون أساسا للولايات المتحدة. فضلا عن ذلك, غالبا ما يقود وكلاء إيران في الدول العربية, مثل لبنان والعراق, العديد من هذه الاحتجاجات التي نراها. لذلك, لا يمكننا أن ندع المحور الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط يملي السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقد حان الوقت لتسوية وضع القدس إلي الأبد. فقد أخرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة هذه الخطوة علي أمل أن يتمكن الفلسطينيون والإسرائيليون من التوصل يوما ما إلي حل توافقي بشأن هذه القضية. وقد كان ذلك خطأ جسيما. فأولا, لم يساوم القادة الفلسطينيون يوما بحرية ومن دون ضغوط. ولم تنبذ منظمة التحرير الفلسطينية العنف بتاتا إلا بعد تعرضها لهزائم مهينة متعاقبة علي أيدي قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ثانيا, استخدم منتقدو عملية السلام مسألة المدينة المقدسة لعرقلة ومنع أي تقدم نحو تسوية سلمية. وقد يكون الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مجرد فسحة الأمل التي نحتاج إليها, إذ سيقوم بتسوية هذه المسألة, وإذا كان الفلسطينيون يريدون دولة أو يحتاجون إليها, فسيتعين عليهم الانتقال إلي القضايا التي تستحق وتتطلب المفاوضات حقا. فهل بإمكانهم قبول هذا الواقع؟ وهل سيقبلون به؟ وجهة نظر صهيو أمريكية متطرفة بعيدة عن الواقع يحاول الكاتب أن يوحي لقرائه أنها الواقع الجديد, متجاهلا حقائق التاريخ والجغرافيا, رغم أن الوقت لايزال مبكرا لتقييمها, وحتي لو فرضت علي العرب والمسلمين لفترة, فاليهود والصهاينة يعلمون من نصوصهم التوراتية أنها مؤقتة, حتي لو اعترف العالم كله بها وليس ترامب وحده.