البشعة هي إحدي مفردات التحكيم بين المتخاصمين, وهي عادة لا تزال قائمة وخلالها يحتكم المتخاصمون للنار للفصل بينهم بلعقها عند محكم متخصص يسمي المبشع والمنوط به تنفيذ حكم القضاة العرفيين, ومهمة المبشع ليست بالهيئة, ولا يستطيع أي شخص القيام بها, وقد أصبح يؤمها عدد من سكان الحضر في وادي النيل وغيره من بلاد مصر في القضايا المعقدة. يقول الدكتور فتحي عثمان وكيل كلية الشريعة والقانون بالقاهرة إن البشعة ليس لها أصل في الشرع الشريف, وإنما يجب أن نعمل بقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: البينة علي من ادعي واليمين علي من أنكر, فهذا الحديث الشريف رسم لنا طريق المطالبة بالحق وإثباته أو نفي الادعاء الباطل, وهذا ما يجب علي المسلمين أن يتمسكوا به دون سواه من الطرق السيئة التي لا أصل لها في الشرع, بل وتنافي العقائد الثابتة بخصوصية الله تعالي بعلم الغيب, قال تعالي:, قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء] الأعراف:188 فاللجوء إلي البشعة لإثبات الحقوق أو نهي الاتهام عن المتهم لا يجوز شرعا, ثم إن البشعة ضرب من الشعوذة والسحر, وهي إحدي موروثات البيئة العربية في الجاهلية, فقيام المبشع بالتعزيم علي الإناء لا يكون إلا من خلال الاتصال بالجن, وهو محرم بلا خلاف. كذلك ما يقوم به المبشع من تسخين إناء وادعاء أن المتهم إن لحسه بلسانه ولم يضره دليل علي براءته أمر غير منضبط, لا يمكن التعويل عليه شرعا, فإن عدم خلاف, أو غيره وإسالة لعابه, قد يكون عند البعض ولا يكون عند الآخرين, فمن طبائع بعض البشر أنه يخاف بمجرد اتهامه, فينتفي التثبت من صحة ما يدعي في طريقة تسخين الإناء, وقد عاب الله تعالي علي من يحكم بالظن, كما في قوله تعالي: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا النجم:.28 وكذلك القيام بطريقة البشعة فيها إضرار علي الشرع من أكثر من ناحية, فمن ناحية فيها إبطال لقواعد الشرع في إثبات الجرائم, ومن ناحية أخري فيه إضرار علي العقيدة, حيث إن كثيرا من الناس لا يخاف أن يحلف بالله كذبا, ولكن يعظم في قلبه أن يكذب أمام البشعة خشية الفضيحة وقبول المتهم بعمل البشعة في حالة وجود النار فيه إهلاك وتعريضها للتعذيب, وهو منهي عنه شرعا, فكما جاء النهي عن إيذاء المسلم غيره, فلا يجوز أن يؤذي الإنسان نفسه, لأن جسده أمانة عند الله تعالي, واعتداء الإنسان علي جسده محرم سواء أكان بالقتل أم بغيره, كما قال تعالي: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما النساء:29, ويقاس عليه كل إيذاء للنفس, وعليه: فلا يجوز شرعا اللجوء إلي البشعة ولا اعتبارها في التقاضي, ويأثم فاعلها والمشترك فيها, والراضي عنها, لمخالفتها قواعد الشرع في التقاضي, وأثرها الفاسد علي العقيدة. ويقول الدكتور عبد الله أبو الفتح بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين جامعة الأزهر بالقاهرة إن البشعة هي إحدي الوسائل التي يتم بموجبها إبراء الذمم والتبرئة من التهم, والبشعة تعني: الكي بطرف قطعة حديد محمية علي النار إلي درجة الاحمرار طرف لسان من اتهم بجرم ما, وذلك بأن يطلب ما يسمونه ب, القاضي أو المبشع] من ذلك المتهم أن يمد لسانه فيلذعه علي رأس اللسان بتلك القطعة المحمية لدرجة الاحمرار من الحديد, فإذا تركت النار أثرا للكي علي اللسان يسند الجرم إليه, وإذا لم يترك الكي أي أثر علي رأس اللسان يعلن ما يسمونه ب, القاضي أو المبشع براءته]. ومن العجيب أنه مازال بعض الناس يلجأ لبعض البدو الذين توارثوها عن أجدادهم ليتم فض التنازع بينهم في الحقوق علي أساسها, مع أن التحاكم لمثل هذه العادة البدوية القديمة غير متوافق مع ما وصل إليه العقل البشري من رقي في التفكير, فضلا عن أن الشرع الشريف لا يقر, البشعة] كطريق لفض النزاع بين الخصوم, فهي إذن ممنوعة شرعا لأسباب من أهمها: أن الشرع الشريف قد حدد وسائل معينة لإثبات الحقوق, فيجب أن يصير إليها المسلمون عند التحاكم, ولا يصيرون إلي غيرها, وتلك الوسائل هي: الإقرار, والبينة, والشهود, فإما أن يقر الإنسان بتهمته, أو تكون هناك بيئة يقبلها العقل ويقرها الشرع لإثبات الحق, أو يقوم الشهود بالشهادة علي أنهم رأوا المتهم يفعل ما اتهم فيه, والدليل علي ذلك حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم البيئة علي من ادعي, واليمين علي من أنكر, فهذا الحديث النبوي الشريف قد رسم لنا الطريق الصحيح في الشرع للمطالبة بالحق أو نفي الادعاء الباطل, ولهذا يجب علي المسلمين أن يتمسكوا بذلك دونما سواه من الطرق التي لا أصل لها في الشرع, بل ولا تتوافق مع العقل كما أنها تنافي ما هو راسخ في قلوب المسلمين من أنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل, قال تعالي مخاطبا أفضل خلقه سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون. ويضيف الدكتور عبد الله كما أن ما يقوم به ذلك الرجل الذي يسمونه القاضي أو المبشع من تسخين قطعة من حديد لدرجة الاحمرار وادعاء أن المتهم إن لحسه بلسانه ولم يضره يعد هذا دليلا علي براءته وإن أضره كان دليلا علي كونه قد ارتكب الجرم كل ذلك أمور غير منضبطة عقلا, بل ولا يمكن التعويل علي تلك البشعة شرعا لأنها قد تتسبب في إهلاك نفس المتهم أو تعريضه للتعذيب, وهذا منهي عنه شرعا لأنه لا يجوز للإنسان أن يؤذي نفسه أو غيره, لأن النفس البشرية أمانة استأمننا الله تعالي عليها, فأي اعتداء عليها سواء أكان بالقتل أم بغيره حرام بل قد يصل إلي أن يكون من كبائر الذنوب, وذلك إذا أدي إلي إزهاق الروح بغير حق قال الله تعالي: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ويقاس علي النهي عن القتل كل إيذاء للنفس. ما هي البشعة؟ الأبحاث التاريخية تؤكد أنها محكمة عرفية يتم فيها إثبات أو نفي تهمة معينة موجهة من طرف إلي آخر وذلك عن طريق لعق المتهم قطعة حديدية تتوهج حرارة, وقد اشتق مسمي البشعة من بشاعة الموقف, حيث يتعرض المتهم لموقف صعب ومخيف يمثل لحظات حاسمة في تقرير مصير قضيته. والبشعة بمثابة محكمة نهائية لا تقبل النقض أو الاستئناف, إذ إن من ثبتت براءته أو جرمه ليس له أن يتمادي في التقاضي مع خصمه بل أن يعطي خصمه حقه أو يأخذ منه حقه إذا كان بريئا لقاء التشهير والاتهام بالباطل, وتكون البشعة في حالة القضايا المنكرة, والتي لا يتوافر فيها شهود أو بينة جلية, كقضايا القتل والسرقات, فعند مثول الطرفين أمام القاضي, وإنكار أحد الأطراف التهمة الموجهة إليه من قبل خصمه, يطلب المدعي أو المدعي عليه( إن كان واثقا من براءته) أو القاضي إحالة القضية إلي المبشع لعدم تمكن أي طرف من إثبات أو نفي التهمة الكائنة, والبشعة محصورة في قبائل معينة منذ زمن بعيد وتنتقل في نفس العائلة بالوراثة, وهؤلاء المبشعون معترف بهم بين القبائل, ولا يمكن لأحد آخر أن يصبح مبشعا ويتميز المبشع بالصلاح والتقوي والصبغة الروحية الدينية البادية عليه بجلاء, والصدق بحيث لم يعهد عنه الكذب إطلاقا, ومعرفته غير العادية ببواطن الأمور.