اجتذبت الثورة عاطفيا بعض المنحدرين من أصول عربية كي ينظروا بايجابية إلي هويتهم العربية, وعمقت الثقة بالذات لدي أصوات عربية لا تزال تتصدر مشهد المقاومة الثقافية. من خلال تجربتي في الدراسة بأمريكا الجنوبية لما يقرب من ثماني سنوات اقدم ملاحظات عن واقع المهجر العربي في البرازيل كنموذج للحياة الاجتماعية والسياسية لهذا المهجر في أمريكا اللاتينية فهذا المهجر بالاصل يتنوع تكوينه التاريخي بحسب البلد الأصلي للمهاجر وديانته وإثنيته( أصوله القومية) ودوافع هجرته وطبقته الاجتماعية ووعيه السياسي.. الخ ودارت أغلب المعاملات الاقتصادية والاجتماعية للجيل الأول من المهاجرين العرب حول أنشطة شعبية كالتجارة والمطاعم ومع شباب الجيلين الثاني والثالث تشكلت ثقافة مزدوجة تتراوح بين ثقافة الأسر العربية التقليدية المرتبطة بالنوادي الاجتماعية والجمعيات الخيرية للجوامع والكنائس وبين ثقافة المجتمع الغربي الذي يتلقون فيه تعليمهم وينشئون فيه صداقاتهم ويمارسون حياتهم المهنية هذه الازدواجية الثقافية بين قيم التقاليد الأبوية العربية وقيم المجتمع الغربي المتحرر أسفرت عن شخصية قلقة ومتوترة لدي المنحدرين من أصول عربية وتبلور هذا القلق في صراع اجتماعي له جانبان: الأول.. مستتر بين الأجيال القديمة التي تمارس الاستبداد الأبوي باسم الأعراف الدينية الاجتماعية وبين أجيال جديدة مؤمنة بالمواطنة الحرة وتنتقد السلبيات الأسرية.., والثاني.. صراع بين نظام القيم الذكورية الاستبدادية وبين الثورة النسائية علي هذه القيم. ولقد كان هذا الصراع ملحوظا لمناهضي المصالح العربية كالحركة الصهيونية والقوي المحافظة في الادارة الأمريكية, فاتجهت هذه القوي للتلاعب بالتعديات الدينية والاثنية والقومية للمهجر العربي, وروجت لمقولة نموذج التعددية الثقافية عن أمريكا أو إسرائيل, وانتهجت سياسة ثقافية واعلامية بالتعاون مع المستشرقين وأصحاب دور النشر ووسائل الاعلام الكبري لترسيخ صور نمطية عنصرية عجز العرب عن مواكبة العصر وهي في ذلك تفسح المجال أمام التيارات الهمجية في عالمنا العربي تلك التي لا تحترم الاختلافات الدينية والثقافية وتعتم علي أوجه الحداثة والمدنية, وتسوق لتفوق إسرائيلي مزعوم في القدرة علي إدارة الاختلافات. أمام هذه الاشكاليات تباينت ردود الفعل بين المهاجرين العرب من اليهود والمسيحيين والمسلمين فنجد العرب اليهود وهم محاصرون بين عنصرية يهود أوروبا وبين صراع العرب مع إسرائيل يمارسون عادات عربية مثل الاجتماع في مقاه لتناول الشاي الساخن ولعب النرد والدومينو وتناول الحلوي الشامية وتبادل الحكايات أما العرب المسيحيون فقد كانوا الأقدر علي التأقلم لتقارب القيم التي يعتنقونها مع حداثة المجتمع اللاتيني التي انبثقت من المرجعية الدينية المسيحية وبالتدريج شكل قطاع كبير منهم طبقة اجتماعية متميزة تتبني الليبرالية الجديدة في أمريكا الجنوبية ومن جانب آخر فقد ارتبطت مصالح العرب المسلمين بالتحالف مع الرجعية العربية في بلدانهم بما في ذلك المملكة السعودية وقامت الأخيرة بتمويل جمعيات خيرية تروج للفكر الوهابي, مما عمق من مأساة الصراع بين آباء هذه الجالية وبين أبنائهم وأحفادهم. وتسبب استبداد الآباء بالأجيال الجديدة في فقدان الصراحة بين الطرفين وقدمت رجعية الكبار الصغار فريسة سهلة لتفشي خطاب كراهية الثقافة العربية, واختزالها في المخيلة العامة إلي صور نمطية من قمع الحريات ومصادرتها غير أن وهج الثورة المصرية كشف أن صراع الأجيال كان دائرا كذلك داخل الأسر العربية في الأوطان الأم, وأن هناك أجيالا ثورية ومشروع نهضة حديثة يولد في عالمنا العربي وهكذا اجتذبت الثورة عاطفيا بعض المنحدرين من أصول عربية كي ينظروا بايجابية إلي هويتهم العربية, وعمقت الثقة بالذات لدي أصوات عربية لا تزال تتصدر مشهد المقاومة الثقافية, مثل ميلتون حاطوم و عزيز عبدالصابر و أمير صدر و جميل مراد. لكن لا يزال تعامل العقلية الدبلوماسية العربية مع هذه الاشكاليات محدودا وتسيطر عليها بعثات تحتكر التفسير الواحد للمحظورات الثلاثة( السياسة والدين والجنس) ويقتصر عملها علي التفاعل التقليدي من خلال طقوس سياسية وتجارية وعسكرية بين الحكومات ورجال الأعمال والعسكر من الجانبين, وتتجاهل كوادر المجتمع المدني العربي التي قد تكون فعالة في الحوار الثقافي مع هذه الاشكاليات وفي مواجهة التضليل الإعلامي بشأن العالم العربي وسواء أكان هذا التضليل يقوم علي نشر خطاب يحض علي كراهية العرب أو التعتيم علي أوجه التحديات المتشابهة للواقع المعاصر في البلدان العربية وأمريكا اللاتينية. ولهذا تستدعي إعادة هندسة علاقاتنا بشعوب أمريكا اللاتينية تحرير مؤسساتنا من التبعية الثقافية لأوروبا والولايات المتحدةالأمريكية ويتطلب ذلك سياسة خارجية عربية مستقلة للضغط الاقتصادي والسياسي والاعلامي علي الإدارة الأمريكية, وذلك حتي تتوقف عن بث خطاب كراهية العرب والمسلمين والتعتيم علي مطالب شعوبنا المشروعة في الحرية والعدالة والمساواة. وفي هذا السياق هناك حاجة ماسة لتعاون الدول العربية والأمريكية اللاتينية في انتاج أفلام ومسلسلات تليفزيونية يهدف تتغيير الصور النمطية السلبية التي ترسخها الافلام والمسلسلات الممولة أمريكيا وصهيونيا وهناك حاجة أيضا لتمويل مشروعات ترجمة مشتركة بين كبري دور النشر في البلدان العربية وأمريكا اللاتينية ولا يمكن تصور إعادة هندسة العلاقات العربية الأمريكية اللاتينية من دون تحرير جامعاتنا وضمان استقلاليتها لنتمكن من الخروج علي هيمنة التقسيمات الأوروبية الشكلية للغة والأدب والاتجاه نحو قراءة نقدية للاشكالات الاجتماعية والثقافية المشتركة بيننا وبين الشعوب الأخري وهو أمر من شأنه تمهيد الطريق امام البحث المشترك في مشكلات انسانية وثقافية تعيشها مجتمعاتنا العربية ومجتمعات أمريكا اللاتينية وعلاوة علي ذلك فإننا مطالبون بتبادل الخبرات علي مستوي نقابات الصحفيين هنا وهناك وكي يتدرب صحفيون لاتينيون علي تغطية الشئون العربية وتتأهل أجيال من الصحفيين المصريين والعرب لتحليل شئون أمريكا اللاتينية وهو جهد في النهاية يتيح إنشاء وكالات أنباء مستقلة عن التبعية الإعلامية لمركزية أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية. في مطلع القرن الحادي والعشرين, تفتح الثورة المصرية باب الأمل في تحرير العلاقات الثقافية العربية بشعوب امريكا اللاتينية من بلطجة الامبريالية الأمريكية والصهيونية وهي بذلك تسهم في بناء هوية نظام عالمي جديد قائم علي التعددية, وحتي تصبح حياتنا أكثر وعيا وعدلا وحرية ومساواة. باحث مصري شاب متخصص في دراسات أمريكا اللاتينية بجامعة ساوباولو في البرازيل