تتعدد الإثنيات والديانات والمذاهب والثقافات في كل الدول وتشكل كل منها أقلية أحيانا لا تذوب بالكلية في المجتمع الكبير, وتتمايز الأقليات بلغات وثقافات ومواقع وثروات, تفخر بأصولها وتحن للماضي, وتدفعها تلك الاعتبارات إلي طلب الطلاق, أو الاستقلال عن الدولة الأم. ولو سمحت كل دولة لكل أقلية فيها بالانفصال لهذه الأسباب, ربما لن تبقي دولة في العالم علي حالها. كتالونيا إقليم إسباني يتمتع بحكم ذاتي, وله برلمان وحكومة منفصلة, ترجع جذوره إلي العصور الوسطي, ويؤمن كثير من أهله بأنهم أمة مستقلة عن بقية البلاد, يعد أحد أكثر الأقاليم الإسبانية ثراء, وتتركز فيه صناعات مهمة, أهالي الإقليم ذوو نزعة استقلالية, يعتزون بهويتهم ولغتهم الخاصة. تشابهت أزمة الكتالونيين مع أكراد العراق في رغبة كلا الشعبين في إجراء استفتاء من أجل الاستقلال عن الدولة الأم, إلا أن قضية إقليم كتالونيا تختلف كل الاختلاف عن مشكلة إقليم كردستان العراق, فبداية زواجه أو انضوائه تحت العلم الإسباني كانت طوعية بخلاف ما حدث مع الأكراد عندما قسمت دولتهم بين أربع دول من بينها العراق, وحدث الاندماج بين الإقليم والمملكة الإسبانية منذ نشأتها في القرن الخامس عشر عندما تزوج فرديناند ملك أراجون من إيزابيلا ملكة قشتالة ليوحدا مملكتيهما. ربما يكون التشابه الوحيد بين القضيتين يتمثل في رفض السلطات المركزية في مدريدوبغداد السماح للأقلية المتمايزة بإجراء الاستفتاء المرغوب. ولعل المصادفة التاريخية وحدها هي من جعل أكراد العراق يحددون غدا الإثنين الموافق الخامس والعشرين من سبتمبر الجاري لإجراء استفتائهم, ودفعت بالكتالونيين لاختيار الأول من أكتوبر المقبل لتحديد مصيرهم, لتقابل محاولاتهما بالرفض التام من جانب السلطات المركزية خشية التقسيم, لتتشابه القضيتان في كثير من التفاصيل. الحكومة الإسبانية استبقت الأحداث وعلقت بحكم الأمر الواقع عمل حكومة إقليم كتالونيا, مثلما هددت الحكومة العراقية في بغداد بمواجهة عسكرية مع عناصر الشرطة الكردية البشمركة. من جانبه أكد كارليس بويجديمونت رئيس إقليم كتالونيا خبر التعليق, وقال إن الإقليم يشهد حالة طوارئ واتهم حكومة مدريد بأنها عبرت الخط الأحمر نحو الاستبداد. صحيفة الإندبندنت البريطانية ذكرت الأربعاء الماضي أن تدخلات السياسيين الانفصاليين جاءت بعد ساعات من اقتحام الشرطة الوطنية الإسبانية لوزارات الحكومة الكتالونية, في محاولة لوقف وجمع الأدلة علي إجراء استفتاء للاستقلال. كما نفذت الشرطة الإسبانية عمليات للبحث عن مواد انتخابية, بما في ذلك صناديق الاقتراع وأوراق التصويت ومنشورات الحملة, وداهمت شركات البريد السريع الخاصة. وكانت المحكمة الدستورية الإسبانية في مدريد, أعلنت عدم شرعية الاستفتاء الذي أعلنته الحكومة الشعبوية اليمينية الحاكمة في كتالونيا, وألقت الشرطة الإسبانية القبض علي ما لا يقل عن13 مسئولا كتالونيا في المداهمات التي شنتها, والتي تأتي في الوقت الذي يواجه فيه المئات من رؤساء البلديات في المنطقة المثول أمام المدعين العامين للمساءلة بسبب تأييدهم للتصويت. بويجديمونت اتهم مدريد بعبور الخط الأحمر الذي يفصلها عن الحكومات القمعية, بإصدارها قرار التعليق وفرض حالة الطوارئ. وأضاف وهو برفقة وزراء الإقليم من القاعة القوطية في القصر العام في برشلونة: إنها حالة غير مقبولة.. لقد انتهكوا الحقوق الأساسية وميثاق حقوق الإنسان.. لقد قاموا بتعليق غير قانوني وتدخل لا يحترم المبادئ الأساسية للديمقراطية من جانب الحكومة المركزية في مدريد. كما اتهم بويجديمونت رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي, بأنه قام بفعل يعتبر عارا ديمقراطيا في تصرفاته, مضيفا أن إسبانيا خرقت ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية الذي يتضمن حق تقرير المصير والحكم الذاتي للأقليات. وقال رئيس الجمعية العامة البرلمان الكتالوني إنه لن يتراجع عن التصويت المقرر علي الاستقلال. في هذه الأثناء تجمع حشد كبير من مؤيدي الاستقلال في برشلونة لدعم حكومة كتالونيا, بعد انتشار معلومات عن المداهمات وقاموا بتنظيم مظاهرة تضامنية في مدريد. ودعا رئيس الجمعية الوطنية في كتالونيا, جوردي سانشيز إلي المقاومة السلمية وأضاف لقد حان الوقت, نحن نقاوم بسلام, نحن نخرج للدفاع عن مؤسساتنا بلا عنف. وقال متحدث باسم حزب بوديموس الاشتراكي اليساري إنه من غير المقبول أن يكون هناك سجناء سياسيون في ديمقراطية أوروبية, إن الحزب الشعبي يقودنا إلي الانحدار السلطوي الذي لا يمكن التسامح معه. يأتي ذلك في الوقت الذي أيدت فيه الأحزاب اليمينية الإسبانية ما قامت به الشرطة, وقال زعيم حزب سيودادانوس ألبرت ريفيرا, إنه يؤيد المداهمات لأن الحكومة الكتالونية تخطت القانون وانتهكت حقوقنا, وقال متحدث باسم الحزب الحاكم الشعبي إن سيادة القانون أقوي من تلك التي تقع خارج نطاق القانون..مدريد واجهت رغبات الكتالونيين في الاستقلال بتجميد موارد الإقليم المالية. في كل الأحوال يبقي إصرار الأقلية في البلدين علي الاستقلال وتقسيم البلد الأم باقتطاع جزء منها محاولة محفوفة بمخاطر المواجهات العنيفة مع السلطات المركزية, والاصطدام لن يكون في صالح الأقليات, رغم أن الاتحاد الأوروبي لم يعلن رفضه لفكرة استقلال الإقليم مثلما واجه أكراد العراق رفضا محليا وإقليميا ودوليا واسع النطاق, وستكشف الأيام القليلة المقبلة مصير المحاولتين وفقا لظروف كل قضية علي حدة.