علي مهل وفي تأن غريب, تغادر شمس يوليو قلب السماء, تميل ناحية الغروب قليلا, يتمدد الظل فتلتقط الأرض الملتهبة أنفاسها, تهب نسمات خفيفة تحمل بقايا صهد الظهيرة وكثيرا من رائحة البيوت العتيقة في حواري الدرب الأحمر, يرتفع صوت أذان العصر, تسمعه أم ريم يتردد من عشرات المآذن التي ترتفع في الفضاءات حولها, هذا الصوت الشجي القادم من بعيد ينبعث من مئذنة الرفاعي, وهذا الأذان الخافت الذي يجاوبه هو صوت مؤذن السلطان حسن, أما هذا الصوت الجهوري الذي يوقظ من كان في قيلولة فينطلق من مكبر صوت لجامع أثري يقبع كحارس أمين في أول الحارة. كانت أم ريم تجلس علي الأرض, وقد ألصقت ظهرها بالحائط, تفكر, ودموع متحجرة تأبي أن تغادر مقلتيها, في الغد وما سيأتي به, متعبة كانت ويائسة وقد أظلمت الدنيا في عينيها, ولم تعد تري من سبيل للخلاص من حالتها المتأزمة إلا بمعجزة تهبط من السماء, بعد أن فشلت كل تحركاتها وخطواتها من أجل توفير لقمة كريمة لها ولطفلتها ريم, تبتسم بمرارة عندما مرت في خاطرها صورة ابنتها, تعاتب نفسها: بس ما تقوليش طفلة, بقت عروسة ما شاء الله. ريم, حبة العين وقطعة من القلب, بل هي القلب كله, شابة كالقمر المضيء تكاد تحجبه سحابات الفقر والعوز, تستلقي علي السرير الوحيد الموجود بالغرفة, سرير ضيق يتسع بالكاد للمرأتين البائستين, تتلاصقان بحثا عن الدفء والطمأنينة وأمان من غدر الأيام يكاد يكون شبحا لا تستطيع القلوب أن تتعلق به ولا أن تفكر فيه العقول المنهكة, تنظر أم ريم إلي ابنتها عبر الغرفة الضيقة الخالية من الأثاث فتتنهد بعمق, ها هي الطفلة تبلغ عامها الخامس عشر, تودع الطفولة ببراءتها وعفويتها وتدخل بجرأة إلي سني الشباب والجمال والفتنة, ورغم ما وهبها الله من حسن فطري فإنه يعوزها الكثير مما يمتلكه أقرانها, من ملابس ومصاريف تعجز الأم الوحيدة عن توفيرها. عندما رحل الزوج قبل ثلاثة عشر عاما, كانت أم ريم لا تزال في شبابها, لم تكن قد مرت سوي سبع سنوات علي زواجهما, رحل فجأة وكأنه لا يبالي بها أو بطفلتها, كأنه تعب من الحياة القاسية ومل من مقاومتها, تركها بدون أي دخل أو مورد للرزق, لم يترك ميراثا أو مالا, ومن أين له المال وقد كان عاملا علي باب الله, عندما طرق باب بيت أهلها في قريتهم المنسية بأطراف محافظة الشرقية يطلب يدها للزواج, لم ترفض ولم توافق, لم تكن قد رأته من قبل, قيل لها إنها ستسافر معه إلي القاهرة, انقبض قلبها, القاهرة مدينة كبيرة وهي لم تغادر بيوت القرية من قبل, عندما رأته لم تشعر تجاهه بشيء, بدأ من هيئته أنه يكبرها بسنوات عدة كما كان الفقر أحد ملامحه البارزة, ولكنها لم تر في هذا عيبا, الفقر مش عيب, هي أيضا فقيرة من بيت فقراء. تم كل شيء بسرعة كبيرة, لم تمض أسابيع حتي وجدت نفسها زوجة قاهرية تقيم في شقة صغيرة مؤجرة بالدرب الأحمر بالقاهرة, اندمجت سريعا في أجواء الحارة, وأسرتها طبيعة الناس المسالمة, السيدات في الحارة ودودات, يسألن عنها ويتحدثن إليها, عشريات تنشأ بينهن العلاقات سريعا, وتنفتح القلوب وتفيض الألسنة بالحكايا, وتنير الضحكات الخجلي الوجوه, كان الرجل يقضي يومه في الأعمال الشاقة ثم يئوي إليها منهكا فتكون له السكن والمأوي, ورزقهما الله بعد سنوات بريم, فأصبحت حياتهما مكتملة رغم الكد والعرق وضيق الرزق, وفجأة انتهي كل شيء. رحل الزوج عن الدنيا ذات ليلة كئيبة, ترك ريم وأمها بلا عائل أو مورد رزق, لم يكن أمام أم ريم إلا أن تدبر نفسها, مارست بعض الأعمال البسيطة حتي توفر لنفسها ولطفلتها لقمة عيش ولو بلا غموس, انتهي عقد الشقة الصغيرة المؤجرة فانتقلت إلي غرفة أصغر بإيجار أقل وبعقد مؤقت أيضا, وتكرر الأمر عدة مرات, باعت أثاث البيت ولم يتبق إلا السرير وبعض الأطباق وأدوات الطبخ التي لا غني عنها. لجات أم ريم إلي مكتب الشئون الاجتماعية بالدرب الأحمر تطلب معاشا لها ولابنتها ضمن برنامج تكافل وكرامة لتصطدم بأولي عقبات الروتين, قال لها الموظف بإشفاق: يا ستي إنتي تروحي الشرقية, عنوانك في بطاقتك الرقم القومي علي هناك, أي شرقية تذهب إليها أم ريم؟ ماذا تفعل إن عادت بابنتها إلي هناك, وعلي من تعيش عالة والكل مطحون في الفقر, كما أنها أصبحت قاهرية, ومن الدرب الأحمر, بنت بلد تماما, يا ستي ما ينفعش, بس ممكن تغيري محل الإقامة في البطاقة. لابأس يبدو أن هذا حل بسيط, لكن أم ريم سيدة طيبة, الروتين هناك في الشئون الاجتماعية هو هو في الأحوال المدنية, طلبوا منها عقد إيجار دائم وإيصال سداد كهرباء أو غاز طبيعي, لتجد نفسها في طريق مسدود تماما, وتعود إلي نقطة الصفر, فليس لها مكان إقامة ثابت, تتنقل بين غرف الإيجار المؤقت, ولا عداد كهرباء أو غاز باسمها, وكانت قد تقدمت بأوراقها إلي وزارة الإسكان, لتحصل علي شقة ضمن الحالات الأولي بالرعاية في5102/5/41, ولم تتلق ردا. أم ريم, السيدة منال محمد عبد السلام, المقيمة منذ عشرين عاما في حي الدرب الأحمر, والتي لا تعرف لنفسها مكان إقامة آخر, تناشد الدكتورة غادة والي, وزيرة التضامن الاجتماعي, إدراجها ضمن برنامج تكافل وكرامة, لتوفير لقمة عيش كريمة لها ولابنتها الشابة التي ترتاد المدرسة وتحلم بمستقبل أفضل, كما تناشد الدكتور مصطفي مدبولي وزير الإسكان منحها شقة ضمن الحالات الأولي بالرعاية, رحمة بالمرأتين الضعيفتين من الإيجارات الجديدة التي لا تمتلكان قدرة علي مجاراة الارتفاعات الجنونية فيها. علي حافظ