كيف يمكن للعالم العربي أن يستنهض ذاته ويحييها بعد أن استحالت أوضاعه بل واقعه بأكمله إلي حطام بل أطلال إقليمية.. وكيف ينفلت من قبضة ذلك الغرب المتآمر.. بل كيف يعلن عن نمط جديد من التصدي مستعينا باستراتيجية ذهنية, إن لم تجعله منتصرا فلا تجعله منسحقا؟! كيف السكوت وقد أتت لحظة الاحتدام؟ وما هو الفعل الاستراتيجي المستوجب الحدوث تجاه سريان آلية التفتيت بكل معطياتها الأيديولوجية والعسكرية.. ولماذا تحولت مسارات المعقولية السياسية إزاء ثورات الربيع العربي إلي شتاء مدمر كما خطط ونظر بريجينسكي.. وما هي مستقبليات ذلك الشتاء المزعج.. وكيف سيكون مشهد التواجه الشرقي الغربي.. وهل يمثل ذلك المشهد امتدادا تاريخيا للجولات البربرية الماضوية أم انه سيعد مشهدا منفصلا بحكم الطفرة الحضارية التي لا تزال تحمل في أعماقها ملامح الصلف والغطرسة وطاقات الحقد تلك المحركة لكل النوازع العدوانية؟... ولندع كلمات قطب الاستراتيجية الأكبر هنري كيسنجر تجيب علي تلك التساؤلات وتفتح أفقا آخر سيتحول فيه الخيال السياسي إلي واقع ملموس في الرؤية الغربية. ومن ذلك أن نذر الحرب العالمية الثالثة قد لاحت وأصبحت وشيكة الحدوث وستكون الضربة الأولي فيها لإيران المتأهبة لاستعادة مقومات الامبراطورية الفارسية وأنه خلال تلك الحرب الشعواء ستكون مهمة اسرائيل هي إبادة أكبر عدد ممكن من الكتلة العربية بما يسمح أن يسيطر علي أكثر من نصف الشرق الأوسط. وان هذه الحرب لن تضع أوزارها إلا حين يتحول المسلمون إلي رماد, ذلك أنهم لا يتصورون أن طبول هذه الحرب قد دقت بالفعل لأن الصمم يجتاح آذانهم. ولأن أمريكا لها أهداف عليا فانها ستكون مضطرة لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط لأهميتها الاستراتيجية ولما تختزنه من ثروات طبيعية متنوعة يتصدرها البترول والغاز. وفي إطار ملحمة الرعب النووي تتجه رؤية كيسنجر نحو ان أمريكا واسرائيل قد فرغتا من إعداد ذلك النعش المهيب لروسياوايران, بعد ما منحت ايران احساسات ومشاعر زائفة بالقوة علي الصعيد السياسي والعسكري. وحين تستفيق كل من روسيا والصين من تلك الغفوة الطويلة يكون الانفجار الكبير قد حدث بالفعل ولن تحقق فيه النصر سوي قوة واحدة هي اسرائيل وأمريكا وعندئذ تنطلق أمريكا نحو ترجمة الحلم التاريخي في إقامة مجتمع عالمي جديد تكون له حكومة واحدة ذات قوة خارقة لا تماثل ماضيا ومستقبلا. وانه علي الشباب الأمريكي الذي تم تدريبه خلال عقد من الزمن أن يسحق أصحاب الذقون المجنونة في أي دولة وفي أي لحظة وتحت أي ظرف لأن الغاية المثلي هي الابادة المطلقة لتلك الذقون بعد أن انتهت مهمتها التخريبية خلال التوظيف الفاعل لذلك الجزء المسموم من فكرة الجهاد. ولعل التنظيم الداعشي قد جسد ذلك الجزء في كل ممارساته الدموية بما ألقي في روع الساحة الانسانية باطلا مدي حض الدين الاسلامي علي العنف والقتل وهو ما يسوغ بالضرورة للقوي الغربية التماهي مع العديد من الطرق والوسائل والأدوات حماية لذاتها من طيش تلك التنظيمات, من ثم تكون الحرب علي تلك العقيدة وأصحابها مبررة ومنطقية ولا تمثل غير رد فعل بريء وليس عدوانا مخططا. ولعل كل ذلك لا يمثل أية غرابة علي الاطلاق, إذ أن المسار الفكري لكيسنجر لم يتناقض بل لم يتغاير فهو صاحب أخطر العبارات الدالة علي عمق الوعي الحاد النافذ إلي أغوار القضايا ومدي الحنكة السياسية والاستراتيجية وتحريك أقطار الكرة الأرضية بين إصبعيه, لكن الغرابة بحق إنما تكمن في أننا رغم كل تلك المظالم التاريخية وعلي مدي قرون طوال نفتقر لمستوي الطاقة الذهنية الاستراتيجية الفائقة والعاملة علي إعلاء الصالح القومي دون الاضرار بحريات الشعوب وثرواتها ووضعيتها الحضارية وقيمها وثقافتها لأن للأمم تاريخا يشفع لها ألا تطويه وتستحضر غيره وهو ذلك الفارق الجذري بين الشعوب الأصيلة والأمم الطفيلية المتدثرة بحضارة لم تع مغزاها أو دلالاتها لأنها قد جعلت حياتها رهنا علي نجاح معادلات التدخل والعدون والحروب والاستيلاب وهي معادلة إن قبلها التاريخ اضطرارا فلن يقبلها طواعية.