الحرب نابعة من الطبيعة البشرية وملازمة لها, وأرسطو وأفلاطون لم يريا في الحرب شيئا غير طبيعي, والتاريخ يؤيد ذلك ويصدقه ولا ينفيه, ولا يمكن إنهاء الحروب من حياة البشرية, وتاريخ البشرية شاهد علي ذلك, والسنوات القليلة التي خلت من الحروب في حياة البشرية ترجع إلي تعادل القوي فأفرزت السلام, أو تفردت قوة بالعالم لا تقاوم, وفي جميع الأحوال كان ذلك لبضع سنين, ثم تعود كرة الحروب مرة أخري. والسلام كالحق لابد من قوة تحميه. وللحروب آثارها المدمرة لحياة الفرد والجماعة, فلا يخوض غمارها إلا طامع معتدي استخف قومه فأطاعوه لخوض غمار الحروب وويلاتها, أو مدافع يلجأ مكرها إلي خوض الحرب مدافعا عن الحق والعدالة. كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبقريا لم يفر فريه أحد كما أخبرنا حضرة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, وكان ضد الحرب, ولا يتمناها, ولا يسعي إليها, وخاضها لضرورة مباشرة, ولا مناص منها, والتخاذل عن لقاء العدو المعتدي يعاب عليه الرجال ويؤدي إلي ضياع الحق وقتل الرجال, وسبي النساء وضياع الأرض, وينزل بالساحة الذل والهوان. كان سيدنا عمر رضي الله عنه يعلم يقينا مبادئ الإسلام ودعوته إلي السلام وعدم الاعتداء, وأن الحرب شرعت لرد عدوان, يقول ابن تيمية: إن رأي جمهور الفقهاء أن الحرب لدفع عدوان. وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يعلم يقينا نصوص القرآن الكريم وإنها تدعو إلي السلام, عدم الاعتداء, قال سبحانه وتعالي( إن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل علي الله) الأنفال61, وكان يعلم أحاديث حضرة سيدنا رسول الله, التي تدعوا إلي عدم تمني الحرب, قال سيدنا رسول الله,( لاتتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا). كانت جزيرة العرب مستضعفة بين قوتي الفرس والروم, فتارة يخضع العراق والشام للفرس وتارة للروم, وتارة تنفرد الفرس بالعراق, وتنفرد الروم بالشام, واليمن وهي جنوب جزيرة العرب لم تنج من هذا الصراع, ففي سنة20 هجزية غزت قوة من جيش الحبشة سواحل اليمن من البحر, فجزيرة العرب كلها كانت ميدانا لصراع القوي الكبري, ولم ينج من هذا الصراع إلا ما حمته الصحراء القاحلة, وشظف العيش وبعد الشقة. وبدأت محاربة القوي الكبري للإسلام من بداية الدعوة, كانت دولة الروم تهدد الإسلام ودولته الوليدة, وأمر هرقل بقتل من اعتنق الإسلام في بلاد الشام, وكسري وجه إلي عامله باليمن, ويدعي باذان, أن يبعث إلي حضرة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, رجلين من أجلد رجاله ليأتياه برسول الله صلي الله عليه وسلم, فقدما علي رسول الله وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال: من أمركما بذلك؟ قالا: ربنا, يعنيان الملك, وأخبرا رسول الله, بما جاء من أجله, وقالا: إن جئت معنا كتب باذان شافعا لك عند كسري, وإلا قاتلك وقومك. فكان لابد من حماية الدعوة الوليدة, ولحق سيدنا رسول الله, بالرفيق الأعلي ولم يخرج جيش أسامة بن زيد لدرء خطر الروم وحماية حدود الدولة من ناحية الشمال, وانقاذ المسلمين الذين أمر هرقل بقتلهم, وحرص سيدنا أبو بكر علي انفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم, وخرج المرتدون في جزيرة العرب يهددون الدولة فأجتهد سيدنا أبو بكر مدة خلافته علي حماية المسلمين من غارات الأعداء. وتولي الخلافة سيدنا عمر رضي الله عنه فلا يتصور تخاذله عن حماية المسلمين فالتخاذل, خيانة لله ورسوله, وفيه هلاك المسلمين فكان لابد أن تمضي المعركة لنهايتها لحماية المسلمين, وتواصلت انتصارات المسلمين ووصلوا من ناحية الشمال حتي سلسلة جبال طوروس, وغربا حتي سواحل البحر الأبيض وشرقا حتي حدود العراق, وبعد أن وصل سيدنا عمر إلي تأمين الدولة ضد أعدائها, وقف ضد الحرب, فقد زال الخطر, والبلاد التي تم فتحها عربية وسكانها من العرب. طلب سيدنا سعد بن أبي وقاص بعد انتصاره في موقعة القادسية واستقراره في المدائن عاصمة الفرس الأذن بالاستمرار في الفتوحات, فقال سيدنا عمر: لا وددت لو أن بيننا وبين الفرس جبلا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم, حسبنا من الأرض السواد( أي أرض العراق) إني آثرت سلامة المسلمين علي الانفال. وكان رفضه الحاسم أن يستمر عمرو بن العاص في الفتوحات في شمال افريقيا وكان وصل إلي طرابلس الغرب, وأمر بالعودة إلي مصر. قد سعي سيدنا عمر بن الخطاب ولم يسع إلي الحرب يوما في حياته, ولكن أجبر القائد العظيم علي خوض الحروب, فالفرس نقضوا العهد ومواثيقهم مع المسلمين واخذوا يتجمعون حول الامبراطور يزدجر الثالث, وأنهم جمعوا جموعهم في نهاوند استعدادا للانقضاض علي المسلمين في العراق, فكان خير وسيلة للدفاع الهجوم فخاض موقعة نهاوند. وكانت دولة الإسلام مهددة من جيرانها فأراد أن يحشد القوات لخوض موقعة نهاوند فقال( أخاف إن أخليت الشام من الجنوب أن تعود الروم إليها, وإن أخليت اليمن من الجنود أخاف أن تغلب الحبشة علي مايليها منها) لذلك حرك قوات من الكوفة والبصرة وترك قوات الشام واليمن مرابطة حيث هي لحماية البلاد. وكان فتح مصر لضرورة عسكرية لتأمين الشام, وترك مصر في أيدي الروم وقد انسحب إليها بقايا الجيش البيزنطي المنهزم في فلسطين يمثل خطرا علي المسلمين, لذلك تم فتح مصر باتفاق بين الخليفة عمر بن الخطاب وقائده عمرو بن العاص, كان لابد من فتح مصر لضرورة عسكرية واستراتيجية, وهي حماية الدولة من قوي الروم المرابطة في مصر أو التي لجأت إليها بعد هزيمتها في الشام. هكذا سيدنا عمر بن الخطاب رجل سلام وسعي إليه جهده, ولم يخض الحروب طمعا في ثروة, أو طلبا لسلطان, ولكن خاضها للسلام, الذي لا تحميه إلا القوة وخوص الحروب.