في مثل هذا الموعد من كل عام أسعي جاهدة لاقتناص أيام معدودة للسفر إلي فرنسا. فدار النشر الباريسية, التي أتعامل معها منذ سنوات عديدة, مازالت ترفض توقيع العقد قبل مناقشتي وجها لوجه في محتوي المؤلف الجديد. وأنا أسعد بذلك أيما سعادة. أولا, لان هذا النظام يدل علي جدية الدار في تعاملها مع المؤلفين من أعضاء الاتحاد الدولي للكتاب باللغة الفرنسية, وثانيا لان هذه الزيارات الخاطفة تطفئ جذوة حنيني لبلد المساحات الخضراء والبشرة البيضاء. المعطف, القفازات, الحذاء الدافيء من الداخل والقبعة المقاومة للأمطار.. تري هل عساني نسيت شيئا قبل أن اغلق الحقيبة؟ آلو..أهلا سيادة المحافظ..لأ لسه ماسافرتش..كان يسعدني يافندم..سيادتك مينفعش..بس لو..بس حضرتك.. الثوب الأبيض الفضفاض, حذاء السير الخفيف, والقبعة الكبيرة للحماية من الشمس الحارقة..من المؤكد أنني نسيت شيئا خلفي في القاهرة بسبب السرعة, وبطبيعة الحال لن أجده في تلك المحافظة الشاسعة التي تعادل44% من المساحة الكلية لجمهورية مصر العربية. هبوط الطائرة في المطار أنعش ذاكرتي المدرسية..تقع محافظة الوادي الجديد في الجنوب الغربيلمصربالصحراء الغربية..تتميز بمناخ جاف صيفا دافيء شتاء..واحات الداخلة والخارجة والفرافرة من أهم معالمها..معبد هيبس ومعبد دير الحجر ومصاطب بلاط الفرعونية ومقابر البجوات من أشهر المزارات..البلح..الزيتون..البرتقال والقمح من أهم الزراعات..الخزف..الفخار..الأرابيسك..الكليم والسجاد من أهم الصناعات..أكمل يا أستاذ فاروق؟..الله يفتح عليكي يا حنان يا بنتي,عيدي كمان علشان اللي نايمين في الفصل ورا دول يمكن يفلحوا زيك. وخفتت الهمسات الضاحكة لصديقات الطفولة في الذاكرة,ليرتفع صوت السيد المحافظ والسادة المرافقين له من المسئولين بالمحافظة..أهلا بك يا دكتورة وبضيفنا العزيز رجل الأعمال الفرنسي تيبو فاك علي أرض مصر..سترين بنفسك الآن لماذا دعوتك لزيارة باريس الجميلة,ولا ترهقي نفسك في الترجمة,فأستاذ مجدي من أبناء الوادي مترجم إلي الفرنسية نفتخر به وهو سيتولي تلك المهمة لتتفرغوا جميعا للاستمتاع بالزيارة وتفقد فرص الاستثمار. أي باريس تلك التي يتحدث عنها أهل الوادي طوال الطريق الذي امتدت الزراعات والرمال علي جانبيه؟..ما أجمل الواحات الخضراء التي يفترش ظلالها الحالم رمال بيضاء تشبه قلوب من يرافقوننا في السيارة الرسمية..يستمد السائق الخبير في اختراق الصحاري الأبية قوته من الجبال التي تمتد علي مرمي البصر,ثم يعود ليدغدغ الأسفلت إلي باريس في انسيابية إنسانية وكأنه يخشي علي الطرق التي مهدت حديثا من قسوة عجلات الدفع الرباعي..باريس,مدينة الصحراء والبشرة السمراء,قرية حسن فتحي المعمار الذي لا يندثر,الصخور الشهود علي حقب التاريخ المتعاقبة,المشغولات اليدوية بأنامل نسائية,عروض الهجن والألوان متناغمة,قصائد الشعر التي تشتعل وطنية,مأدبة البدو العامرة,مكتبات وسوق تجاري ودار سينما وأخيرا..سلم الطائرة. أستاذي الغالي فاروق,أينما كنت الآن,أرسل لك من طائرة العودة إلي مدينتي القاهرية خواطر لن يضن بها الأثير عليك..هل يمكن أن نضيف إلي المنهج الدراسي,الذي شاخ مثلنا,أن محافظة الوادي الجديد تذخر بكل المقومات الطبيعية والبشرية من تراث مادي وغير مادي يؤهلها لتكون محمية طبيعية,وأن هناك سياحة جديدة تسمي سياحة التزحلق علي الرمال البيضاء وسياحة علاج الأمراض الجلدية والمفصلية المزمنة وسياحة البيئة الطبيعية؟..وأن هناك فرص عمل مشترك بين شباب الوادي ذي الحس الوطني العالي والوعي الثقافي الرفيعوالانفتاح الفطري علي الآخر مهنيا وإنسانيا..وبين شباب مصر من كل المحافظات؟..وأن هناك فرص استثمارات حقيقية أجنبية لتعمل بسواعد مصرية في الوادي الطموح؟ أستاذي,رجائي احتواء هذهالطاقات المبدعة بعيدا عن أفكار الماضي البالية التي قوضت انطلاقات الشباب وجعلتها حبيسة الصندوق الأسود للروتين والبيروقراطية وسياسات الأيدي المرتعشة..فلتزرع,في وجدان تلاميذك الصغار أن تباعد وتنافر الجهود والتنافس السلبي لمعالي السادة الكرام يعرقل مسيرة أمنا الحبيبة..يا تري,هل تسمعني؟ [email protected]