يبدو في هذا العنوان نوع من التناقض; إذا كيف يكون للقبح ثقافة والقبح يتعارض مع كل النماذج الثقافية التي عرفها الإنسان؟! والحق أن هذا صحيح, فكل الثقافات الإنسانية عبر التاريخ تحض علي الجمال بوصفه قيمة عليا, تشهد علي ذلك الفنون والآداب التي هي أساسا تعبير عن القيم الجمالية وتجسيد لها, بل لا تعد فنا ولا أدبا إن لم تتمتع بقسط موفور من القيم الجمالية شكلا ومضمونا. وإذن فما هذا الشيء الذي نعنيه بثقافة القبح ؟!والجواب سهل بسيط, فلقد نشأت عادات جديدة غريبة أزاحت القيم الثقافية وأطاحت بكل مقوماتها, وتنامي هذا الكيان الجديد مشكلا نموذجا بشعا في ألوان السلوك وأساليب الحياة.تجد هذا النموذج ماثلا أمام عينيك: في المدن القبيحة ذات الأحياء المكتظة بالبشر, والبيوت المتلاصقة التي خلت من كل روح أولمسة جمالية, والشوارع الملتفة كالأفاعي, وقد تناثرت في أحشائها المفتوحة كل صور التلوث والتشويه, والأرصفة القذرة المكدسة بالباعة الجائلين وبضاعتهم الرديئة.تري هذه الثقافة الرديئة في سلوك الناس, وجوها تعلوها الكآبة والبغضاء, ونظرات زائفة ملؤها الريبة والشك والحقد والخوف, ولغة خلت من الحب فصارت نوعا من العدوان السافر, لا قلب ينبض بالحب, ولا كلمة طيبة, ولا حتي ابتسامة مجاملة. ناهيك عن الصراعات الدامية, وكأنك في ساحة قتال غير منظم إذ تعبر الشارع أو تركب سيارة عامة, صرخات تصم الآذان تتصاعد من كل مكان وسباب هنا وشجار هناك, وشبان يقفون علي النواصي يدخنون المخدرات ويعبثون بالرائح والغادي, وقد تسول لهم عقولهم الغائبة الاعتداء علي الناس.وحتي الملابس القبيحة لا تعلوها مسحة من جمال: الجينز الضيق الذي تختنق فيه الأجساد وتنحشر وكأنها دمي ألبست خرقا باهتة قبيحة.والجدران والمقاعد والأشجار في الأمكان العامة إن وجدت ملوثة بكتابات عدائية, واجهات المحال التجارية مصممة بطرق تؤذي العيون وتغتال الجمال. أما الأطعمة التي كنا نستمتع بها يوما فصارت كلها ملوثة بالمبيدات السامة, وحتي شكلها أصبح غليظا, ينسحب هذا علي كل طعام وشراب: من قطرة الماء إلي رغيف الخبز, إلي الخضروات والفاكهة, وصدق الله العظيم ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون( الروم:41). النيل... هذا النهر العظيم الذي نشأت علي ضفافه حضارات عظيمة, انظر إليه إن استطعت أن تراه من كثرة ما أقيم عليه من مبان قبيحة تجده يئن مما يلقي به من مصادر التلوث: نفايات المصانع, والبواخر العائمة, وبأيدي الناس. المدارس سجون تضج بما فيها ومن فيها, وقد غابت منها الخضرة والأفنية الواسعة وأصبحت مجرد جدران يختنق من بداخلها. المصالح الحكومية علب سوداء تتكدس فيها البشر والأوراق والمقاعد بغير نظام تنعدم فيها كل لمسة جمال. تأمل طريقة تعامل الناس بعضهم مع بعض تجد القبح والتجهم والفظاظة, جنبا إلي جنب مع الخوف والشك والريبة. تأمل الطرائق المستحدثة في التحية والمجاملة: بين الشباب: تحيتهم بينهم التشائم ومجاملتهم السباب. وانظر كيف يتصرف كل إنسان علي طريقته الخاصة, وكأنما غابت القوانين والأعراف والمثل الأخلاقية, فصار كل إنسان يفعل ما يحلو له وبالطريقة التي تروقه وتعبر عن درجة القبح التي وصل إليها. لقد تنامي هذا الغول البشع حتي ضرب بجذوره في كل نواحي حياتنا وأصبحنا نعيش في عالم قبيح, بلا قوانين ولا مثل, لكن ثمة في وسط هذا الخراب ما يدعو إلي التفاؤل, والشعور بأن من الممكن تجاوز هذه الثقافة البشعة, فما هي إلا قشرة سطحية, وتحت هذا القبح توجد المثل الجمالية الضاربة بعمق جذور الأمة وحضارتها, فقط علينا أن نبعث هذه القيم ونضيئها نبراسا للساكنين, موقنين بأن الثقافة تربية, والتربية الجمالية في الإسلام لها مظاهر كثيرة وصور مفصلة. نستطيع تأمل ذلك في الآثار الإسلامية ذات الطابع المعماري والجمالي الفريد. وفي النصوص الإسلامية تتجلي الدعوة إلي الجمال والتمسك بالقيم الجمالية: إن الله جميل يحب الجمال. والجمال في شتي آفاق الحياة قولا وسلوكا, مظهرا ومخبرا.. وآيات القرآن الكريم وسنة الهادي البشير قادرة علي تحويل كل مظاهر القبح في حياتنا إلي نور وهداية وجمال, كيف لا ؟ وهدي القرآن والسنة هو الذي حول البداوة والتخلف والفساد في الضمائر والذمم وكل مظاهر العصر الجاهلي إلي حضارة وجمال للدنيا كلها تمثلت في حضارة خير أمة أخرجت للناس وصدق الله العظيم: لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين( آل عمران:164). [email protected]