أسابيع قليلة وقد تتأكد مخاوف بعض الأصدقاء الفرنسيين من اجتياح موجة اليمين المتطرف فرنسا, فقد أظهرت نتائج الجولة الأولي من الانتخابات وصول كل من ماري لوبان ممثلة اليمين المتطرف وإيمانويل ماكرون ممثل الوسط لجولة الإعادة, كما خرج الحزبان التقليديان الكبيران اليميني واليساري من السباق, للمرة الأولي منذ قيام الجمهورية الخامسة عام1958, وهو الأمر الذي يمثل هاجسا شعبيا لدي البعض ولدي الحكومات التي لا تدري إلي أي شاطئ سيقود اليمين المتطرف أوروبا والعالم بعد موجات صعوده الآخذة في التمدد. قد تأتي لوبان عكس التوقعات كما جاء ترامب من قبل,ومعها ستكون فرنسا العضو الفاعل في الاتحاد الأوروبي والقوي الدولية ذات الثقل أمام واقع جديد مختلف. في الحقيقة صعود اليمين المتطرف في أوروبا لم يأت من فراغ, فالأوروبيون ضجوا بتسارع سياسات الحكومات ذات الطابع الاندماجي والتوسعي,وبتراجع دور الدولة وترك المواطنين والمجتمعات نهبا لطموحات أفراد وشركات ومصالح اقتصادية وقوي شرسة,وقد ألقت هذه السياسات بظلالها علي مجمل أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية فازدادت سوءا. مع هذه التطورات لم تعد الدولة الوستيفالية العتيدة التي صدرتها أوروبا للعالم كنموذج بإقليمها المعروف وحدودها المنضبطة وسلطتها المركزية القوية درعا يحتمي به الأفراد,بل صارت الحدود مفتوحة قسرا أمام تدفقات فقراء العالم ليزاحموا الأوروبيين مواردهم ومستقبلهم ويفسدوا عليهم ثقافتهم ونمط حياتهم, وتضاءلت سلطات حكوماتهم أمام السلطات الاتحادية,فتراجعت مكانة المواطن في وطنه وتراجعت معها قدرته المادية وسلطته المعنوية تجاه دولته. وفرت هذه الأوضاع بيئة مناسبة لرواج الأفكار اليمينية المتطرفة, ورفع المرشحون الشعارات المناهضة للتطرف والهجرة والأقليات كلافتات لجذب قطعان المتعصبين والعنصريين من أنصار هذا التيار, حيث تختمر حالة الإحباط من سياسات العولمة وبؤس الأوضاع الاقتصادية, مع تزايد الخوف علي استقرار المجتمعات وأمنها لا سيما في ظل تداعي دول وفشل أخري, لتصنع حالة الزخم الكبير لهذا التيار وأنصاره الذين باتوا يرفعون شعار الدولة أولا ويبحثون عن سياساتها الحمائية ودورها التقليدي. هي ليست محض موجة متطرفة بل هي مزيج من العنصرية والشعبوية المتوجسة من المستقبل والباحثة عن الأمان, هي رد فعل طبيعي علي الفشل الرأسمالي في تحقيق عدالة في توزيع الثروات, ورد فعل علي تحول النموذج الرأسمالي إلي آلة تدمير كبري لمقدرات الشعوب وطاقاتها وتعدد أزماتها, وفشل النخب الليبرالية وفسادها, هي رد فعل علي التهام العولمة لخصوصية المجتمعات وثقافاتها وتعايشها وطمس تراثها ومبادراتها لصالح مبادرات الأقوياء وإملاءاتهم. لكن علي أي قاعدة يستدعي اليمن خطاب الدولة القومي؟ لا يبدو هناك رؤية متماسكة وبدائل متكاملة بل خطاب شعبوي عنصري بلا مضمون; لهذا ينذر صعود اليمين بنتائج وخيمة, فبعض الدول سيتراجع دورها أمام شعارات نحن أولا, وبعض المجتمعات ستدخل في أزمات داخلية بين مكوناتها تحت لافتات عداء الأقليات. ودوليا لا شك يعزز صعود الخطاب القومي الصدمات بين الدول والحضارات والثقافات والمجتمعات, كما ستتشكل مساحات تفاهم بين هذه التيارات والسلطويات المنفلتة في العالم التي تتبني مفردات الخطاب ذاته للتوسع في إحكام قبضتها علي مجتمعاتها, وهو ما سيضر بالشعوب وبحقوقها وحريتها وتطلعاتها إلي المستقبل لا سيما إذا كانت سلطويات بلا عقل أو عقال. الأسوأ أن موجة اليمين الراهنة تصطحب معها حالة من اللاعقلانية والانهيار الأخلاقي, وهو ما يعني أن الليبرالية وإن كانت قد أفلست فدفعت المجتمعات نحو مزيد من الشعبوية والتعصب; فإن خطاب التعصب القومي يبدو أكثر بؤسا, لأنه خيار يتبني العداء والكراهية والعنصرية منهجا للعمل, مع غياب رؤي ومناهج متماسكة; بما يعني أننا سندور في دائرة مفرغة تتراوح بين شراهة الليبرالية وإفلاسها وبين شراسة اليمين المتطرف وغبائه.