حينما أطلق الاتحاد السوفيتي أول مركبة فضائية شعرت أمريكا أن هناك فجوة تقنية مع قطب العالم الآخر وبالبحث عن السبب وجدوا أن التعليم هو محور التقدم, وكان أن شكل الرئيس الأمريكي ريجان لجنة رئاسية لبحث الأمر. وخرجت اللجنة بتقرير علمي أطلقوا عليه أمة في خطر. كان ترتيب أولويات الاهتمام في التعليم العام كالتالي: الاهتمام باللغة القومية( الإنجليزية بطبيعة الحال) يليها الرياضيات ثم الفيزياء ثم الدراسات الاجتماعية ثم علوم الحاسب ويليها مواد أخري, علي أن تكون مدة الدراسة سبع ساعات يوميا لمدة بين مائتين ومائتين وعشرين يوما في السنة الدراسية. كما أشار التقرير إلي رواتب المدرسين بجعلها متناغمة مع السوق ومبنية علي الكفاءة علي أن يظهر المدرس تفرده وكفاءته علميا. تلك كانت خطوة مهمة في سباق التنافس بين قطبي العالم وقتها. المهم في هذا السياق هو الاهتمام بلغة المجتمع وبالرياضيات والفيزياء فثلاثتهم ركيزة أساسية للتنمية. ومن المفيد الإشارة إلي أننا حينما نريد تطوير مجتمعنا ينبري وزراء التربية والتعليم العام والعالي وغيرهم بترويج أسس أخري لم يثبت علميا كفاءتها بأن التنمية تأتي من إتقان اللغات الأجنبية وعلوم الحاسب! المهم أنني تذكرت تلك القصة حينما كنت أقرأ سيرة عالم رياضيات( بعيدا عن الرياضة التي قد يخرج الفرد منها بركلة إن وضع مستقبله في كرة تتقاذفها الأرجل) أثبت في علم المسطحات( توبولوجي) أن أي شكل لا يوجد به ثقب يمكن أن يكون كرة, وهي مسألة رياضية لم يستطع أحد حلها منذ قرابة قرن! ولقد قام عالم الرياضيات الروسي جريجوري بيريلمان( المولود عام1966 م) بحل تلك المسألة عام2002 م. ونتيجة ذلك تم منحه أعلي ميدالية في الرياضيات وقدرها مليون دولار تمنح لمن يقوم بحل أي مسألة من سبع مسائل رياضية عاصية علي الحل, والغريب في الأمر أنه رفض قيمة الجائزة كما رفض كذلك جائزتين أخريين تقديرا لجهوده العلمية وقال: عندي كل ما أحتاج إليه. ورغم أنه لا يرغب في التحدث للصحافة فإنه في حديث نادر لصحيفة نيويوركر قال: إن أخلاقيات مجتمع علماء الرياضيات تصيبه بالجزع لأنهم أناس يخالفون المعايير الأخلاقية بتمييزهم ضد الأجانب فهناك علماء رياضيات في عزله رغم صدقهم ورغم التزام أغلبهم. وعالمنا لم تخل مسيرته العلمية من جوائز حصل علي إحداها من روسيا ولكنه رفض الجوائز الثلاث الأجنبية الأخري. ورغم أنه عمل في الولاياتالمتحدة فترة في تسعينيات القرن الميلادي المنصرم إلا أنه عاد عام1996 م ليعمل في مسقط رأسه سانت بترسبرج( لينينجراد سابقا) في معهد استكلوف للبحوث بعد أن رفض عروضا للعمل في جامعات ستانفورد وبرينستون وهما من أرقي جامعات العالم. ورغم أن بعض الجمعيات الخيرية حثته علي قبول الجائزة والتبرع بمبلغها لهم فإن موقفه كان ثابتا بالنسبة لأخلاقيات المجتمع العلمي الأجنبي إضافة إلي أنه لا يحتاج للمال فجميع احتياجاته متوافرة, حيث يعيش مع والدته التي تبادله نفس الرغبة نفسها في الابتعاد عن الصحافة. الطريف أن جيرانه يصفون حياته بالبساطة جيئة وذهابا إلي معهده وإلي محال التسوق حيث تم تصويرها خلسة لتوضع علي شبكة الإنترنت. تلك فلسفة أعتقد أن نسبة لا بأس بها من مجتمعنا العلمي( مع التحفظ علي اللفظ) يمكن أن تقبلها إن توافرت لها الحياة الكريمة هدفا واحتياجا لكامل الأساسيات دون تبرج ودون مغالاة. ولا يمكنني هنا ألا أتساءل عن المناخ العلمي لمدرسي وأساتذة العلوم الأساسية الذين يرفعون علي أكتافهم تنميتنا في سباق التعليم الذي يئن لفظا ومضمونا!